القسم الثاني – الباب السادس
الفصل الرابع والثلاثون الدبلوماسية
من التبعية إلى الفعل السيادي
مدخل فلسفي–سيادي:
الدبلوماسية ليست مجرّد تمثيل خارجي للدولة،
ولا وظيفة للبروتوكول أو العلاقات العامة،
بل هي انعكاس مباشر لموقع الدولة في العالم،
ولفهمها لذاتها،
ولقدرتها على التعبير عن مصالحها،
وصون كرامتها،
وتحديد شكل انخراطها في المحيط الدولي.
في سوريا، لم تكن الدبلوماسية سلطة خارجية،
بل كانت ظلًا للداخل المستبد،
وصورة مشوّهة عن نظام يرى الدولة مزرعة،
ويرى العالم ساحة ارتزاق أو ولاء.
ولهذا، فإن أي مشروع نهضة لا يكتمل دون إعادة بناء الدبلوماسية،
لا كشكل، بل كفعل سيادي مستقل،
يُعبّر عن سوريا لا عن حاكمها.
أولًا: أزمة الدبلوماسية السورية – من الوظيفة إلى التوظيف
لم تكن الخارجية السورية منذ الاستقلال صوتًا للسيادة، بل:
- كانت في البداية تابعة للانقلابات وتغيّر الولاءات السياسية.
- ثم تحوّلت في عهد البعث إلى أداة تعبوية أيديولوجية تنطق بلغة القومية والشعارات لا المصالح الواقعية.
- وفي عهد الأسد الأب، صارت الخارجية امتدادًا للمخابرات، وأداة تفاوض خفية للحفاظ على النظام لا على الدولة.
- أما في عهد الأسد الابن، فقد تدهورت تمامًا إلى مجرد واجهة للاعتذار عن الجرائم، والارتهان لمحاور خارجية.
وهكذا:
- سقطت اللغة السيادية.
- غابت الاستراتيجية.
- وتم تهميش الكوادر المستقلة.
- وأُبعدت سوريا عن كل المحافل الفاعلة.
ثانيًا: الدبلوماسية كمؤشر على الفعل السيادي
لا توجد دبلوماسية حقيقية في ظل نظام مستبد.
ولا يمكن الحديث عن “تمثيل مصالح وطنية” إذا كانت هذه المصالح محتكرة في يد طغمة حاكمة.
ولهذا، فإن بناء دبلوماسية جديدة يتطلب:
- أولًا: تحرير الإرادة السياسية الداخلية من قبضة التبعية والارتهان.
- ثانيًا: إعادة تعريف المصالح الوطنية بوصفها مصالح كل الشعب، لا مصالح محور أو جماعة.
- ثالثًا: إعادة تأسيس وظيفة الدبلوماسية بوصفها أداة اتصال سيادي، لا ترويج إعلامي.
ثالثًا: المبادئ الفلسفية للدبلوماسية في مشروع النهضة
- السيادة:
لا يُمثّل سوريا في الخارج إلا من يُجسّد إرادتها الحرة،
لا من يبرّر الجرائم أو يستجدي بقاء النظام.
- الاستقلال:
الدبلوماسية ليست بوابة للوصاية، ولا منصّة للإذعان، بل مساحة تفاوض متكافئ، تحكمها المصالح المتوازنة.
- الأخلاق:
يجب أن تكون السياسة الخارجية منسجمة مع القيم التي تسعى الدولة إلى ترسيخها داخليًا:
– كرامة الإنسان،
– حق تقرير المصير،
– مناهضة الاستبداد والاحتلال.
- الانفتاح الذكي:
لا عزلة، ولا تبعية… بل مشاركة فاعلة تُدير التناقضات وتُنتج التحالفات من موقع وعي لا من موقع ضعف.
رابعًا: من الدبلوماسية السلطوية إلى الدبلوماسية المجتمعية
الدبلوماسية في مشروع النهضة ليست حكرًا على وزارة الخارجية.
بل يجب أن تشمل:
- الدبلوماسية الشعبية: عبر السوريين في الخارج، ومنظمات المجتمع المدني، والنقابات المستقلة.
- الدبلوماسية الثقافية: عبر الفن، والأدب، والسينما، والهوية السورية المنفتحة.
- الدبلوماسية الاقتصادية: من خلال علاقات قائمة على التعاون لا التبعية.
- الدبلوماسية الرقمية: عبر المنصات الحديثة وإدارة الرأي العالمي.
سوريا الجديدة يجب أن تتحول من كيان منبوذ… إلى فاعل محترم.
خامسًا: إعادة بناء السياسة الخارجية – خارطة المبادئ والاتجاهات
- 1. مراجعة كاملة للعلاقات الدولية:
- إعادة تقييم كافة التحالفات القديمة.
- إنهاء العلاقات التي قامت على الولاء الأعمى أو الاستنزاف.
- بناء سياسة خارجية متعددة الأقطاب قائمة على المصلحة المتوازنة.
- الانفتاح المتوازن:
- مع المحيط العربي: بوصفه فضاء ثقافيًا–اقتصاديًا طبيعيًا.
- مع الجوار الإقليمي: عبر تفاهمات لا خضوع.
- مع العالم: من خلال سياسة عدم الانحياز الذكي، والالتزام بالقانون الدولي.
- 3. استعادة الشرعية الدولية لسوريا:
- عبر دبلوماسية نشطة تستند إلى رؤية وطنية لا أمنية.
- إعادة التمثيل السوري في المحافل الدولية ليعكس وجه سوريا لا وجه السلطة.
سادسًا: تحرير الدبلوماسية من أدوات النظام القديم
في سوريا القديمة، كانت:
- السفارات أوكارًا للمخابرات.
- البعثات أدوات تجسس أو تبرير للجرائم.
- السفراء موظفين في أمن الدولة.
في سوريا الجديدة، يجب أن تكون:
- السفارة بيتًا للسوريين لا لسلطتهم.
- البعثة منصة تواصل لا ترهيب.
- السفير ممثلًا للكرامة الوطنية، لا مبرّرًا للاستبداد.
ولهذا، نحتاج إلى:
- تطهير شامل للجهاز الدبلوماسي من الموالين للجرائم.
- بناء كادر دبلوماسي جديد عبر مراكز تأهيل دبلوماسي مستقلة.
- إشراك المجتمع المدني في تشكيل الرؤية الخارجية.
سابعًا: الدبلوماسية بوصفها أداة مقاومة وبناء
في عالم تحكمه التكتلات والمصالح الكبرى،
لا يمكن لدولة صغيرة أن تحيا بالبطولة الخطابية،
ولا بالحياد السلبي.
بل تحتاج إلى دبلوماسية:
- ذكية،
- استباقية،
- قادرة على إدارة الملفات الكبرى (إعادة الإعمار، اللاجئين، الجولان، العقوبات، إلخ).
والأهم:
دبلوماسية لا تقبل أن تُختزل سوريا في “ورقة تفاوض” على طاولة الآخرين.
خاتمة الفصل وخاتمة الباب السادس:
الدبلوماسية ليست طرفًا في الدولة،
بل هي صورتها أمام العالم،
وصوتها في الساحات الكبرى،
وأحد أهم اختبارات السيادة.
ولذلك، فإن النهضة لا يمكن أن تُنجز بداخلنا فقط،
بل يجب أن تجد ترجمتها في الخارج أيضًا:
في خطابنا، في حضورنا، في تحالفاتنا، وفي دفاعنا عن معنى أن نكون سوريين… أحرارًا، مستقلين، مكرّمين.