web analytics
القسم الثالث – الباب الأول

الفصل الثاني الدولة كأفق سيادي لا كأداة قهر

مقدمة مفاهيمية:

حين يُطرح مفهوم “الدولة” في الوعي العربي–السوري، فهو غالبًا مشحون بالخوف لا بالطمأنينة، بالمنع لا بالضمان، بالبطش لا بالحماية.

لقد اختُزلت الدولة لعقود في أجهزتها الأمنية، وفي رموز الزعامة، وفي الخضوع للمقدّس السلطوي الذي لا يُسأل عما يفعل.
لكن الدولة في جوهرها ليست جهاز قمع، ولا آلية سيطرة، ولا بنية فوقية لإنتاج الطاعة.

الدولة الحقيقية هي أفق سيادي جامع، يضمن الحقوق، ويوزّع الواجبات، ويصوغ الجماعة الوطنية بوصفها عقدًا مدنيًا لا قطيعًا سياسيًا.

وفي الحالة السورية، فإن إعادة تعريف الدولة هو أحد أكثر المهام إلحاحًا ووجودية، لأن استمرار المفهوم المشوّه يعني إعادة إنتاج الطغيان بثياب جديدة.

أولًا: بين الدولة والسلطة – المسافة المفقودة

في سوريا، لم تكن هناك دولة بالمعنى الفعلي.

ما كان قائمًا هو سلطة استحوذت على مؤسسات الدولة، وأفرغتها من وظيفتها السيادية، واحتكرت القوة، والإعلام، والتعليم، والتشريع، والأمن، لتُحوّل الدولة إلى أداة حكم شخصي.

السلطة تمجّد الزعيم، الدولة تصون الدستور.
السلطة تنزع من المواطن صوته، الدولة تردّ له حقوقه.
السلطة تبني السجون، الدولة تبني المدارس.

واختزال الدولة في السلطة هو ما أدى إلى تدميرها مع أول أزمة كبرى، لأن بنيتها كانت تقوم على الولاء لا على القانون، وعلى القهر لا على التوافق، وعلى السلاح لا على الشرعية.

ثانيًا: الدولة كجهاز سيادة لا كاحتكار للشرعية

الدولة هي التعبير الأسمى عن السيادة الجماعية.
وهي ليست سيادة السلطة على الشعب، بل سيادة الشعب المنظم على قراره ومصيره ومؤسساته.

في الدولة الأخلاقية، تُشتقّ السيادة من الناس، وتُمارس لحماية الناس، وتُقيَّد بقانون وضعه الناس.

أما في النظام الاستبدادي، فإن السيادة تُختزل في شخص، وتُفرض على الناس، وتُستخدم لإخضاعهم تحت شعار “المصلحة الوطنية” التي يُحدّدها الأمن.

إننا بحاجة إلى دولة لا تخاف من مواطنيها، ولا يحتمي الحاكم فيها من شعبه، ولا تُبنى على الهواجس الأمنية، بل على العقود الأخلاقية والشرعية والمؤسسية.

ثالثًا: الدولة كحارس للحقوق لا كمانع للحريات

حين تتحول الدولة إلى خصم للمجتمع، تنشأ الفوضى، وتُفتح أبواب الاحتراب.

وحين تُصبح وظيفة الدولة هي تقييد الحريات وملاحقة الآراء وقمع الأصوات، فإنها لم تعد دولة، بل سلطة بوليسية فاقدة للشرعية.

الدولة الحقيقية هي التي تحمي حرية التعبير، لا التي تراقبها.
هي التي تضمن حق التنظيم، لا التي تجرّمه.
هي التي ترعى تنوع المجتمع، لا التي تفرض عليه نموذجًا وحيدًا للطاعة.

في سوريا الجديدة، يجب أن تُبنى الدولة بوصفها حارسًا أمينًا لحقوق المواطنين، وضامنًا لكرامتهم، ومُنظمًا لحياتهم العامة بما يخدم العدالة لا السيطرة.

رابعًا: الدولة الأخلاقية – من السلطة العارية إلى السلطة الشرعية

ما يجعل الدولة أخلاقية ليس نوايا الحاكم، بل النظام العام الذي يُخضع الجميع للقانون.

وليس “الأخلاق” بمعناها الوعظي أو الديني، بل بمعناها السياسي: أي أن تمارس الدولة سلطتها دون إكراه غير مشروع، ودون عنف غير مبرر، ودون قهر بلا مساءلة.

الدولة الأخلاقية هي التي:

  • تُقيّد نفسها بقانون عادل.
  • تُخضع موظفيها للرقابة والمحاسبة.
  • تفصل بين القوة والحق، فلا تُعاقب خارج القانون، ولا تُكرّم المجرم، ولا تُهين الضحية.

إنها الدولة التي يُطاع فيها القانون لأنه عادل، لا لأن عليه صورة الرئيس.

خامسًا: التأسيس الجديد – الدولة كمنظومة توافق سيادي لا كتركة أمنية

إذا أردنا تأسيس دولة جديدة بعد الاستبداد، لا يكفي أن نغيّر الوجوه أو الشعارات، بل يجب أن نعيد تعريف الدولة نفسها.

نريد دولة:

  • يكتبها الناس، لا تُفرض عليهم.
  • يُحاسَب فيها كل صاحب سلطة، مهما علا.
  • تُحترم فيها التعددية، ويُصان فيها الفرد، ويُحمى فيها الضعيف.
  • تتجدد من خلال الانتخابات، لا من خلال الانقلابات.

هذه الدولة لن تُولد من رحم الغلبة، بل من رحم العقد الاجتماعي الجديد، الذي سيكون محور الأبواب التالية من هذا القسم.