web analytics
القسم الثالث – الباب الأول

الفصل الثالث الواقعية الأخلاقية

بين الممكن والمطلوب

مقدمة فلسفية:

في لحظات التحوّل الكبرى، تتجاذب الشعوب قوتان متعارضتان:

  • الأولى: تطلعات مثالية نابعة من آلام الماضي وأحلام الخلاص.
  • والثانية: واقعية مفرطة تنبع من الخوف، وتدّعي أنها “تقرأ الواقع كما هو”.

لكن في سوريا، كثيرًا ما استُخدم مصطلح “الواقعية” كذريعة للتراجع عن المبادئ، لتبرير التحالف مع أمراء الحرب، ولإعطاء الشرعية لخطايا المرحلة.

فإذا بنا ننتقل من شعار “الحرية والكرامة” إلى تبرير الظلم باسم “الممكن”، ومن مطلب السيادة إلى قبول الوصاية، ومن الحلم بوطنٍ جامع إلى القبول بالانقسام بذريعة أن “هذا ما يمكن تحقيقه الآن”.

لهذا، لا بد من استعادة المفهوم:
الواقعية الأخلاقية هي التي تنطلق من الواقع، لكنها لا تنبطح له؛ تشتبك مع الممكن، لكنها لا تتنازل عن الضروري.

أولًا: تفكيك الواقعية المسمومة – حين يصبح الممكن أداة قمع

في سياق ما بعد الثورات، تنشأ نسخ مشوّهة من الواقعية تتلخص في العبارات التالية:

  • “ليس وقت الحديث عن العدالة الآن”.
  • “دعونا نُركّز على إنقاذ ما يمكن إنقاذه”.
  • “الحقوق المؤجلة أفضل من دولة منهارة”.

هذه العبارات وإن بدت حذرة أو عقلانية، إلا أنها كثيرًا ما تُستخدم لتكريس الأمر الواقع، وتحويل المبادئ إلى “رفاهية”، وتقزيم الطموحات الشعبية باسم “السلامة”.

الواقعية بهذا الشكل ليست سياسة عقلانية، بل إدارة ناعمة للاستسلام.
إنها وقود أنظمة ما بعد الاستبداد التي تريد شرعية بلا تغيير، وسلطة بلا مساءلة، ومرحلة انتقالية لا تنتهي.

ثانيًا: الواقعية الأخلاقية – التعريف والتمايز

الواقعية الأخلاقية ليست خطابًا مثاليًا ولا طوباويًا.
هي مدرسة سياسية متينة تنطلق من قناعة جوهرية مفادها:

أن الأخلاق والممكن ليسا على طرفي نقيض، بل الأخلاق هي ما يُعطي الممكن شرعيته، ويمنعه من أن يكون مجرد صفقة قذرة أو توازن ضعف.

الواقعية الأخلاقية تتطلب:

  1. فهمًا حقيقيًا لتعقيدات الواقع، لا إنكارها ولا تضخيمها.
  2. تشخيصًا دقيقًا للممكنات العملية، دون تهويل أو تبسيط.
  3. تمسكًا ثابتًا بالمبادئ الجوهرية، كخطوط حمراء لا تُنتهك باسم المصلحة.
  4. إبداعًا في تحويل المبادئ إلى سياسات، لا إلى شعارات فقط.

ثالثًا: الممكن في سوريا – أي واقعية نريد؟

في الحالة السورية، الواقعية الأخلاقية تفرض علينا أن نسأل:

  • هل يمكن بناء دولة بلا عدالة انتقالية؟
  • هل يمكن إعادة الإعمار بغياب المساءلة؟
  • هل يمكن صناعة عقد اجتماعي دون الاعتراف بالضحايا؟
  • هل يمكن القبول بتجزئة سوريا أو تدويل قرارها بحجة “الضرورة”؟

الجواب الواقعي حقًا هو:
أن أي مسار لا يحترم المبادئ سيعيد إنتاج الكارثة نفسها، ولو بلون جديد.

رابعًا: الواقعية الأخلاقية كمنهج تأسيسي

الواقعية الأخلاقية لا تضع الأخلاق نقيضًا للسياسة، بل تُعيد السياسة إلى وظيفتها الأساسية:
خدمة الناس لا إخضاعهم، وتنظيم القوة لا تكريسها، وتحقيق التوازن لا فرض الهيمنة.

في هذا المشروع النهضوي، الواقعية الأخلاقية ستكون:

  • الميزان بين الأمل والتكتيك.
  • المرشد بين الحلم والإمكانية.
  • السقف الذي يمنع الانحدار، والجسر الذي يربط المبادئ بالنتائج.

خامسًا: المبادئ التي لا تفاوض فيها

باسم الواقعية، يُطلب غالبًا التنازل عن كل شيء:
عن السيادة، عن الكرامة، عن العدالة، عن الشهداء، عن القضية.

لكن النهضة الحقيقية تُبنى حين نُحدّد بوضوح ما لا يجوز التنازل عنه مهما كانت الضغوط:

  • وحدة سوريا أرضًا وشعبًا وسيادة.
  • المحاسبة على الجرائم الكبرى بحق المدنيين.
  • رفض أي دور لميليشيات أو سلطات الأمر الواقع في إدارة الدولة.
  • الاعتراف بالتعددية والحرية الدينية والسياسية والثقافية كحقوق أصيلة لا منّة فيها.

خاتمة الفصل:

لن نُعيد بناء سوريا إذا أدرناها كصفقة.
ولن نؤسّس لعقد اجتماعي جديد إذا قبلنا أن تكون الأخلاق مجرد ترف فكري.
إن الدولة القادمة لا تُبنى على حساب الحقيقة، بل بالحفاظ عليها في قلب كل قرار.
وهكذا فقط، تتحوّل الواقعية من مصيدة إلى أداة تحرير، وتُصبح الأخلاق سياسة، لا استثناءً مؤجلًا.