القسم الثالث – الباب الثاني
الفصل السابع بناء المجال العام وتحرير الوعي المدني
مقدمة تأسيسية:
لا يُمكن تخيّل دولة حديثة دون مجال عام حر وفعّال.
فالمجال العام هو الحيّز الذي يلتقي فيه الأفراد كمواطنين، لا كأتباع، ويتبادلون فيه الآراء بحرية، ويتنظمون ضمن أطر تمثيلية، ويؤثّرون في القرار السياسي بوصفهم شركاء لا رعايا.
لكن في سوريا، تم تجريف هذا المجال تمامًا:
- أُغلقت ساحات التعبير، وصودرت الحريات، وطُوّعت النقابات، وشيطِنَ المجتمع المدني.
- لم يُسمح بتشكيل المساحات الوسيطة بين السلطة والمواطن، بين الدولة والشارع، بين الفكرة والقرار.
فباتت الدولة بلا “رأي عام”، وبات الشعب خارج معادلة السياسة، وأصبحت البلاد بلا رئة ديمقراطية تسمح بالتنفس الجمعي، أو التعبير المنظم، أو الصراع السلمي على الأفكار.
أولًا: اختناق المجال العام في ظل الاستبداد
سيطر النظام السوري على كل أدوات تكوين الرأي العام من خلال:
- تأميم الإعلام: ليصبح لسان السلطة، لا منبر المجتمع.
- تطويع النقابات والمنظمات: لتُصبح أدوات مراقبة لا تمثيل.
- منع أي تجمع مدني مستقل: بحجة الأمن أو القانون أو المؤامرة.
- ترويج ثقافة الخوف والريبة: حيث يُصبح النقاش خطرًا، والاجتماع شبهة، والتفكير المستقل تمردًا.
وبهذا، تم تجريف كل أشكال التنظيم الوسيط بين الفرد والدولة، ليبقى المواطن معزولًا، مفككًا، عاجزًا عن التأثير أو المشاركة.
ثانيًا: إعادة تعريف المجال العام
المجال العام ليس فقط ساحات ونقابات، بل هو:
- الحيّز غير السلطوي الذي تُصاغ فيه التصورات الجماعية.
- المكان الرمزي الذي تُنتج فيه الأمة خطابها ومطالبها ومصالحها.
- الوسط الذي يسمح ببناء “رأي عام فاعل” يتجاوز الأفراد نحو الجماعة السياسية.
وهو يتطلب شروطًا ثلاثة:
- حرية التعبير والتنظيم.
- إعلام تعددي مستقل.
- دستور يكفل الحريات العامة ويحميها من تغوّل السلطة.
ثالثًا: تحرير الوعي المدني من ثقافة القطيع
الوعي المدني في سوريا أُخضع لعقود من التشويه المنهجي.
فقد تم تدمير الحسّ العام، وتقديم الطاعة على النقد، والاستسلام على المشاركة.
وحلّت ثقافة الفرد الخائف مكان المواطن الشجاع.
استعادة هذا الوعي تبدأ من:
- تربية سياسية تقوم على الحقوق لا على الرضوخ.
- منظومة تعليمية تُربّي على النقاش لا التلقين.
- خطاب عام يُعيد للمواطن كرامته بوصفه شريكًا في القرار.
- نقابات وهيئات مستقلة تُعزّز الانتماء المدني لا الطائفي أو الجهوي أو الأيديولوجي المغلق.
رابعًا: مؤسسات بناء المجال العام في سوريا الجديدة
لا يُبنى المجال العام بالنيات بل بالمؤسسات. ويجب أن يشمل:
- إعلامًا حرًا ومتعددًا: لا احتكار فيه للرأي، ولا قداسة فيه للصوت الواحد.
- مجالس مدنية تمثيلية على مستوى المناطق والمحافظات: تُعبّر عن الناس، وتُنظّم المطالب، وتراقب الأداء.
- هيئات مستقلة لضمان الحقوق والحريات: كالمجلس الأعلى للحريات العامة، وهيئات مراقبة الأداء السياسي والإعلامي.
- قانون أحزاب ونقابات عصري: يُحفّز على التعددية لا يُجهضها، ويمنع الاحتكار باسم الوطنية أو الأمن.
خامسًا: المخاطر التي تهدد المجال العام
حتى بعد سقوط النظام، هناك أخطار متوقعة تهدّد المجال العام إن لم تُبادر الدولة لحمايته، منها:
- الميليشيات التي تحكم بسلطة الأمر الواقع.
- الخطاب الشعبوي الذي يستغل الفوضى لكسب النفوذ.
- الأموال السياسية الخارجية التي تُسهم في شراء الذمم أو فرض الأجندات.
- التردد في إطلاق الحريات خوفًا من الفوضى، وهو تبرير قاتل لاستمرار السيطرة.
خاتمة الفصل:
لا نهضة دون وعي مدني حر، ولا تمثيل حقيقي دون مجال عام مشرّع الأبواب.
فالمواطن الذي لا يشارك، يُختزل؛ والذي لا يُنظّم، يُهمّش؛ والذي لا يُسمع صوته، يُكسر.
ولهذا، فإن بناء المجال العام ليس مسألة فرعية، بل هو قلب الدولة الأخلاقية، ومرآة التعاقد الاجتماعي، ومنبر الشعب الحقيقي.