القسم الثالث – الباب الثاني
الفصل التاسع التمثيل السياسي في دولة ما بعد الحرب
مقدمة سياقية:
في مرحلة ما بعد الحروب، تصبح مسألة التمثيل السياسي اختبارًا وجوديًا لشرعية الدولة، ولمدى خروجها من جذر الأزمة التي مزّقتها.
وفي سوريا، لم تكن المشكلة فقط في غياب التمثيل، بل في تشويهه وتزييفه ومصادرته لعقود.
لقد تم اختزال السياسة في حزب واحد، ثم في شخص واحد، ثم في أجهزة لا تُسأل، ولا تُحاسب، ولا تمثّل إلا نفسها.
ثم جاءت الحرب لتُضيف طبقات أخرى من الانقسام والتشويه، عبر سلطات الأمر الواقع، والفصائل المدعومة خارجيًا، ومشاريع الانفصال، والتغوّل الطائفي والمناطقي، وتراجع الثقة بأي عملية تمثيلية.
لذلك، فإن بناء التمثيل السياسي في سوريا الجديدة ليس مسألة قانون انتخابي فقط، بل هو مشروع إعادة تعريف للشرعية، والهوية، والمواطنة، والشراكة في القرار.
أولًا: تفكيك نموذج التمثيل الزائف
تمثيل ما قبل الثورة، وما بعدها في بعض الأطر المعارضة، اتسم بخصائص مشوهة:
- الاحتكار الحزبي: كما فعل حزب البعث عبر الجبهة الوطنية التقدمية، حيث تمت مصادرة الفضاء السياسي وقوننة الإقصاء.
- التمثيل المخابراتي: حيث يختار الأمن المرشحين ويُدير النتائج، ويُحصر الولاء بشخص الزعيم.
- غياب التعددية الحقيقية: بتشويه مفاهيم المعارضة، وتجريم التنظيم، وتفريغ الأحزاب من أي وظيفة ديمقراطية.
- التمثيل الوظيفي: كما ظهر في بعض كيانات المعارضة التي تُمثّل داعميها الإقليميين أكثر مما تُمثّل الشعب السوري.
- تقزيم المجتمع إلى مكونات طائفية وقومية: حيث يُصبح التمثيل تجزئة، لا تعبيرًا عن مصلحة وطنية جامعة.
ثانيًا: أسس التمثيل السياسي في سوريا الجديدة
لكي يكون التمثيل حقيقيًا، لا رمزيًا، ولا قسريًا، ولا خادعًا، لا بد من تأسيسه على المبادئ التالية:
- التمثيل حق وليس منحة: لا يُمنح من السلطة، بل يُنتزع بوصفه جوهر المواطنة.
- الشعب مصدر الشرعية: لا استفتاءً شكليًا، بل إرادة حرّة تُعبّر عن نفسها بأدوات واضحة وآمنة وشفافة.
- التعددية السياسية المحمية دستوريًا: مع ضمان حرية التشكيل الحزبي، والتمويل المشروع، والمشاركة المتساوية.
- تمثيل لا يقوم على الهوية الدينية أو الإثنية: بل على أساس البرامج والرؤى، مع ضمان تمثيل التنوع لا تكريسه كأداة تقسيم.
- عدم استخدام السلاح أو الولاء الخارجي كوسيلة تمثيل: التمثيل يُكتسب من الناس لا من البندقية، ولا من المموّل.
ثالثًا: آليات التمثيل المقترحة
- برلمان منتخب على أساس التمثيل النسبي، يضمن التعددية ويمنع الهيمنة.
- مجلس تأسيسي تشاركي يُشرف على المرحلة الانتقالية، ويُشرك ممثلي الضحايا والمجالس المحلية والمجتمع المدني.
- مجالس محلية ذات شرعية انتخابية، تُشكّل قاعدة التمثيل السياسي الحقيقي في المناطق.
- هيئة مستقلة للانتخابات، تخضع للرقابة، وتمنع التزوير، وتكفل المساواة.
- قانون أحزاب عصري، يُنظّم العمل الحزبي دون وصاية، ويمنع احتكار السياسة أو تأبيد الانقسامات.
رابعًا: الحذر من استنساخ التمثيل الزائف
من المخاطر الكبرى في المراحل الانتقالية أن تُستنسخ آليات تمثيلية جديدة بأدوات قديمة، مثل:
- “الانتخابات تحت السلاح”.
- “المجالس المفروضة من الخارج”.
- “الأحزاب المصنّعة على مقاس الأنظمة أو المحاور”.
- “الوجوه التي لم تغادر عقلية التبعية أو الشعارية”.
ولذلك، فإن نجاح أي مشروع تمثيلي مشروط بـ:
- تحييد القوة المسلحة من المجال السياسي.
- تحييد المال السياسي، ومصادر التأثير الخارجي.
- الانطلاق من وعي شعبي، لا من تسويات نخبوية هشّة.
خاتمة الفصل:
التمثيل السياسي ليس مجرد واجهة دستورية، بل هو ترجمة عملية لفكرة السيادة الشعبية.ومن دونه، لا عقد اجتماعي حقيقي، ولا شرعية للدولة، ولا معنى للمواطنة.
وفي سوريا الجديدة، لن يُبنى الوطن من جديد إن لم يشعر كل مواطن أنه ممثَّل، مسموع، قادر على التأثير، وعلى مساءلة من يحكمه.
فالتمثيل هو الركيزة التي تترجم “نحن الشعب” من شعار، إلى بنية حكم.