web analytics
القسم الثالث – الباب الثالث

الفصل الثاني عشر العدالة الوقائية

تحصين المجتمع من التطرف

مقدمة تأطيرية:

لطالما تعاملت الأنظمة القمعية مع التطرّف بوصفه تهديدًا خارجيًا، يُبرّر بها القمع الداخلي.
لكن الحقيقة أن التطرف غالبًا ما يكون نتاجًا مباشرًا للظلم، والتهميش، وغياب العدالة، وانسداد الأفق السياسي.

في سوريا، لم يُحارب التطرف، بل تم استثماره:

  • لشرعنة القبضة الأمنية،
  • ولتشويه المطالب الشعبية،
  • ولتشتيت الخصوم السياسيين،
  • بل حتى لخلق أعداء وهميين يسمحون للنظام بادّعاء الشرعية والتمثيل.

ولهذا، فإن مشروع النهضة لا يُقارب التطرف من زاوية القمع الأمني، بل من زاوية العدالة الوقائية: أي العدالة التي تحصّن المجتمع، قبل أن تنفجر فيه عوامل التطرف والانغلاق والعنف.

أولًا: التطرف بوصفه خللًا في العقد الاجتماعي

كلما ضعُفت مؤسسات العدالة، كلما لجأ الناس إلى العدالة البديلة:

  • عدالة الانتقام،
  • عدالة الجماعة،
  • عدالة السلاح،
  • أو عدالة الخطاب الديني المتشدد.

وحين يشعر الإنسان بالخذلان، أو الذل، أو فقدان الأمل، يصبح بيئة خصبة لأي خطاب يمنحه شعورًا بالقوة والانتقام والانتماء.

ولهذا، فإن التطرف لا يُعالج فقط بالملاحقة، بل يجب أن يُفهم بوصفه:

نتاجًا سياسيًا واجتماعيًا لغياب العدالة، واختلال القيم، وانهيار المؤسسات.

ثانيًا: مفهوما العدالة الوقائية والردعية

  • العدالة الردعية: تُلاحق الفعل الإجرامي بعد وقوعه، وتعتمد على العقوبة.
  • العدالة الوقائية: تعمل على منع الجريمة قبل وقوعها، من خلال إزالة الظروف المولّدة لها.

وفي سياق محاربة التطرف، لا يكفي أن نُعدّ السجون، بل يجب أن نُفكّك التربة التي يُزرع فيها الفكر المتشدد، عبر:

  1. نظام تعليمي يُنتج التسامح لا الطاعة.
  2. فضاء ديني حر ومسؤول، لا مُحتكر ولا مملوك للسلطة.
  3. سياسات إدماج للمناطق والمكونات المهمشة.
  4. إعلام لا يُشيطن ولا يُقصي ولا يُغذّي الكراهية.
  5. قضاء يُنصف، ومؤسسات ترعى، وأحزاب تستوعب.

ثالثًا: إصلاح الخطاب الديني كأداة مركزية

في سوريا، كان الخطاب الديني خاضعًا لثلاثة مصادر تطرف:

  1. تديين السلطة: حيث تم استخدام الدين لتبرير الطاعة، وربط وليّ الأمر بالحاكم المستبد.
  2. تسليح التديّن: كما في الجماعات الجهادية التي استغلّت الظلم لتبرير عنفها.
  3. تفريغ الفضاء الديني من الاعتدال والعقلانية: عبر تهميش العلماء الحقيقيين، وتمكين الخطاب السطحي أو الراديكالي.

ولهذا، لا بد من:

  • تحرير المؤسسة الدينية من الهيمنة السياسية.
  • دعم خطاب ديني عقلاني، ينطلق من قيم الرحمة والعدل والمشاركة.
  • فصل الفضاء الديني عن العمل الحزبي والسلاح.
  • تمكين المجتمع من نقد الخطاب الديني نفسه، دون خوف أو وصاية.

رابعًا: العدالة الوقائية كأمن مجتمعي

العدالة الوقائية لا تعني فقط منع التطرف، بل أيضًا:

  • منع الجريمة من جذورها.
  • تقديم خدمات اجتماعية تسدّ الفقر والعوز واليأس.
  • بناء علاقات ثقة بين الدولة والمواطن، تمنع الانجرار إلى الغضب أو الانتقام.
  • فتح قنوات تعبير سلمية تُفرغ الاحتقان قبل أن يتحوّل إلى عُنف.

أي أن العدالة الوقائية ليست مسألة قانون فقط، بل مشروع وطني للتماسك الاجتماعي.

خامسًا: بناء استراتيجية شاملة للعدالة الوقائية

لكي تكون فعّالة، يجب أن تكون العدالة الوقائية:

  1. شاملة: لا تقتصر على المتطرفين، بل تشمل كل مظاهر الانغلاق والكراهية.
  2. مدنية: تقودها مؤسسات حقوقية واجتماعية وتربوية، لا فقط الأمنية.
  3. تشاركية: تُبنى مع المجالس المحلية، والهيئات الدينية، والمدارس، والأحزاب.
  4. قائمة على الوقاية لا القمع: تُعالج الأزمة قبل انفجارها، لا بعد أن تُصبح مأساة.
  5. مبنية على قاعدة بيانات دقيقة: تفهم الواقع المحلي، وتفرّق بين الضحية والمجرم، وبين الخطاب الاحتجاجي والتكفيري. 

خاتمة الفصل:

العدالة ليست فقط محكمة، بل حصانة مجتمعية ضد الانهيار والانفجار.

وحين تُبنى العدالة على الوقاية، يصبح الأمن حماية لا قمعًا، ويصبح القانون علاجًا لا سوطًا، وتصبح الدولة ملاذًا لا تهديدًا.

وفي سوريا الجديدة، لن نحارب التطرف بالرصاص، بل بالعدالة… لا الانتقائية، ولا الثأر، ولا الظلم المعاكس، بل بالإنصاف، والانفتاح، والمشاركة.