القسم الرابع – الباب الأول
الفصل الثاني تفكيك السرديات المهيمنة وصياغة الذاكرة الوطنية
مقدمة تحليلية
في كل صراعٍ دموي، لا تُرتكب الجرائم بالسلاح فقط، بل أيضًا بالكلمات.
وفي سوريا، لم تُمزَّق الجغرافيا وحدها، بل الذاكرة الجماعية نفسها، حيث امتلكت كل جهة سرديتها الخاصة، وقدّمت لنفسها دور الضحية أو البطل أو المخلّص، في وقت لم يكن فيه مكان للضحايا الحقيقيين، ولا لحقائق التاريخ المركّبة.
تحوّلت الذاكرة إلى ساحة حرب باردة:
- النظام يُروّج لرواية “سوريا المستقرة قبل المؤامرة”.
- المعارضة تُكرّس رواية “الثورة النقية والخيانة المتآمرة”.
- الأقليات تُحمّل الأكثرية مسؤولية الإقصاء، والأكثرية ترى في الأقليات حلفاء للطغيان.
- ضحايا كل طرف يتم تجاهلهم أو التشكيك في آلامهم من الطرف الآخر.
إن هذا التشظّي الذاكروي لا يُنتج وعيًا وطنيًا، بل يعيد إنتاج الانقسام، الثأر، ونفي الآخر.
ولذلك، فإن مشروع النهضة لا يستطيع التقدّم إلا إذا خاض معركة شاقة لتفكيك هذه السرديات، وصياغة ذاكرة وطنية مركّبة، شجاعة، ومُتصالحة مع ذاتها.
أولًا: سرديات الحرب وتضارب الوقائع
- السردية السلطوية – من الإنكار إلى التقديس
النظام لم يعترف يومًا بمسؤوليته عن الكارثة.
صاغ رواية مؤامراتية اختزلت الثورة في الإرهاب، وصوّرت الدولة بوصفها الضحية. - السردية الثورية – من المثالية إلى التقديس المقابل
المعارضة ضلّلت ذاتها حين تجاهلت أخطاءها أو برّرت الانتهاكات.
تصدّرت السردية البطولية وغيّبت النقد الذاتي ومأساة المدنيين في مناطقها. - السرديات الهوياتية – ذاكرة الطائفة لا ذاكرة الوطن
كل طائفة أو مكوّن ركّز على مآسيه الخاصة، واعتبر نفسه الضحية الأسمى.
هذا أدى إلى روايات متوازية لا تتقاطع، بل تتصادم.
ثانيًا: مخاطر السردية الأحادية على الوطن
- تدمير إمكانية التفاهم المجتمعي: حين يمتلك كل طرف “حقيقته المطلقة”، تسقط شرعية الحوار.
- تثبيت منطق الضحية–الجلاد بشكل تبادلي: كل طرف يرى نفسه الضحية والآخر جلادًا، دون مساحة للمراجعة أو المساءلة المشتركة.
- تحويل التاريخ إلى أداة تعبئة وثأر، لا وعي وتجاوز: وهو ما يهدد أي عقد اجتماعي جديد بالتفكك قبل ولادته.
ثالثًا: نحو ذاكرة وطنية مركّبة وعادلة
- الاعتراف المتبادل بالآلام والمعاناة
لا ذاكرة وطنية دون الاعتراف بكل المجازر والانتهاكات، مهما اختلف الفاعلون.
الاعتراف لا يعني المساواة بين الجاني والضحية، بل الاعتراف بآلام جميع الضحايا. - رفض التقديس والتخوين معًا
لا أحد فوق النقد، لا النظام، ولا الثورة، ولا الفصائل، ولا الرموز.
ولا أحد خارج الإنسانية، حتى من ضلّ الطريق، إن أقرّ بخطئه. - العمل على توثيق مشترك للتاريخ من زوايا متعددة
تشجيع المشاريع الذاكرية التي تُنصف الجميع دون تزييف أو استثمار سياسي.
إشراك الباحثين، الشهود، والأدب، والمسرح، والفن، في صياغة هذا الوعي الجديد. - فصل التاريخ عن الوظيفة السياسية
لا تُبنى الدولة بوثائق الانتقام، بل بخطاب وطني يحترم الذاكرة، دون أن يُحتجز فيها.
رابعًا: سياسات عملية لبناء ذاكرة وطنية جامعة
- إنشاء “أرشيف وطني للحرب والعدالة” يكون مستقلًا، موضوعيًا، ومفتوحًا أمام الجميع.
- دعم الأدب والفن كوسيط لتفكيك الألم، لا لتوظيفه.
- دمج روايات الحرب ضمن المناهج التربوية، بشرط أن تُدرَّس كمأساة وطنية لا كحرب انتصارات.
- تحصين الفضاء الإعلامي والثقافي ضد محاولات التزوير أو التطييف أو التحريض.
خاتمة الفصل
إن الذاكرة لا تُبنى بالإكراه، ولا تُفرض بالقانون.
لكنها أيضًا لا تُترك للفوضى أو للمنتصر.
سوريا لن تنهض إذا استمر أبناؤها في رواية التاريخ ضد بعضهم لا مع بعضهم.
ولهذا، فإن الذاكرة الوطنية ليست رواية موحدة، بل ذاكرة صادقة، متعددة الزوايا، تنطلق من الاعتراف، وتؤسس للصفح دون النسيان، وللعدالة دون الانتقام، وللوطن دون إقصاء.