القسم الخامس
الفصل الثالث الطائفية
من هوية موروثة إلى مشروع سلطوي
مقدمة الفصل
حين نذكر الطائفية في السياق السوري،
لا نتحدث عن مجرد تمايز ديني أو ثقافي مشروع،
بل عن بنية سياسية مريضة،
تحولت فيها الهويات الأولية إلى أدوات صراع وهيمنة،
وغدت فيها الطائفة سلاحًا أخطر من أي جيش،
وعقيدة خفية تدير الولاءات والانتماءات بعيدًا عن إرادة الأفراد.
لم تكن الطائفية في سوريا مجرد ظاهرة اجتماعية بريئة،
بل كانت مشروعًا سلطويًا كاملًا،
وُظّف بعناية لتفتيت المجتمع،
وشرعنة الاستبداد،
وإعادة إنتاج الولاءات بعيدًا عن أي فكرة وطنية.
في هذا الفصل،
سنحلل نشوء الطائفية كبنية سياسية–اجتماعية،
وكيف تحولت من هوية موروثة إلى مشروع سلطوي مدمر،
وسنرسم مسار التحرر الضروري من هذا القيد،
في إطار مشروع النهضة السورية التي لا تقبل بالانتماءات القسرية.
أولًا: الطائفية كظاهرة اجتماعية أولية
1. الجذور الاجتماعية للطائفية
في مجتمعات ما قبل الدولة الحديثة،
كانت الطائفة تشكل وحدة حماية ودفاع:
الجماعة تحمي أفرادها أمام المخاطر الخارجية.
الانتماء للطائفة يؤمن للفرد هوية، ومكانة اجتماعية، ودعمًا ماديًا ومعنويًا.
الروابط الدينية والمذهبية كانت تندمج مع الروابط الاقتصادية والعائلية.
2. الطائفية كاستجابة لعجز الدولة
حين تعجز الدولة عن حماية جميع مواطنيها بالتساوي،
تعود الجماعات إلى هوياتها الأولية:
طائفة، مذهب، عشيرة، إثنية.
في سوريا،
لم تفشل الدولة فقط في دمج الهويات المختلفة،
بل ساهمت عبر العقود في إعادة تسييسها وتفخيخها.
ثانيًا: من الهوية الاجتماعية إلى المشروع السياسي الطائفي
1. الطائفية بوصفها هندسة للسلطة
الأنظمة الاستبدادية لم تكتف باستغلال الطوائف،
بل قامت على تحويلها إلى قواعد حكم وقواعد تفجير متعمدة:
ضمان الولاء من خلال توزيع الامتيازات على أسس طائفية لا وطنية.
تفخيخ العلاقة بين الجماعات لمنع أي تحالف وطني شامل.
تحويل الطائفة إلى وحدة سياسية خاضعة للسلطة، لا مجرد هوية دينية.
2. الطائفية كأداة شرعنة للاستبداد
يتم تقديم الاستبداد كضرورة لحماية الأقليات من الأكثرية أو العكس.
يُغلف القمع بشعارات حماية الوحدة الوطنية، بينما تغذى الانقسامات سرًا.
تُصوَّر السلطة كضامن للاستقرار، بينما هي المنتج الأول للتفكك الأهلي.
3. الطائفية كآلية دائمة لتجديد الشرعية المتهالكة
كلما ضعفت شرعية النظام، لجأ إلى تأجيج الطائفية لتجديد احتياجه كحامٍ للأقليات أو للهوية القومية.
تتحول الطائفة إلى رهينة الخوف، وتتحول السلطة إلى وكيل إجباري لبقائها.
ثالثًا: الطائفية والفعل الجمعي – صناعة الكارثة
1. توريط الجماعات عبر الفعل الجمعي
الفعل الطائفي لا يبقى فرديًا، بل يتوسع ليشمل الجماعة بكاملها.
باسم الدفاع عن الطائفة، يتم ارتكاب الجرائم، وحينئذ، تصبح الجماعة كلها مسؤولة معنويًا أو فعليًا.
2. حلقة العنف الطائفي المتسلسل
اعتداء → انتقام جماعي → خوف متبادل → عنف وقائي → مزيد من الانقسامات.
تتحول الطائفة هنا إلى فاعل سياسي–عسكري،
ويختفي الفرد الحر المستقل،
ويحل محله المقاتل الطائفي المكبل بالهوية الموروثة.
رابعًا: الطائفية كأزمة دولة لا فقط كمشكلة مجتمع
1. غياب الدولة الحامية للجميع
في غياب دولة القانون،
يتحول المجتمع إلى ساحات حماية ذاتية طائفية.
يصبح السلاح بيد الجماعات ضرورة وجودية، لا مجرد خيار سياسي.
2. الدولة الطائفية – الاستبداد المقنع
دولة تزعم حماية الجميع لكنها تكرس امتيازات للبعض.
دولة توزع الحقوق حسب الهوية، لا حسب المواطنة.
دولة لا ترى مواطنيها كأفراد أحرار، بل كأعضاء في جماعات متنازعة خاضعة للوصاية.
خامسًا: مسار التحرر من المشروع الطائفي
1. تفكيك الطائفية سياسيًا لا فقط اجتماعيًا
لا يكفي الدعوة للوحدة الوطنية.
بل يجب إعادة تأسيس بنية الدولة بحيث تحمي المواطن كفرد لا كعضو في جماعة.
2. إعادة تعريف الهوية الوطنية
هوية وطنية مدنية،
تعترف بالتنوع،
لكنها تؤطره ضمن مبدأ المواطنة والمساواة.
3. إصلاح الثقافة السياسية
تحرير الخطاب الديني من التسييس.
تعليم قيم المواطنة والندية في كل المؤسسات التربوية.
نبذ فكرة الدفاع عن الجماعة عبر تبرير القمع أو العنف ضد الجماعات الأخرى.
4. صياغة نظام سياسي محايد
قوانين انتخابية لا تعتمد على التقسيم الطائفي أو العرقي.
توزيع عادل للثروة والسلطة دون تمييز هووي.
قضاء مستقل يحاسب الأفراد بناءً على أفعالهم لا على انتماءاتهم.
سادسًا: تحديات تفكيك البنية الطائفية
1. الخوف العميق والموروث
جماعات عديدة تخشى فقدان مكاسبها الهشة.
الأقليات تخشى الإبادة، والأكثريات تخشى التهميش.
2. استثمار القوى الخارجية
كثير من القوى الإقليمية والدولية تستثمر في الانقسامات الطائفية،
وتغذي الصراع لمصالحها السياسية والاقتصادية.
3. غياب نماذج بديلة جاهزة
الحاجة إلى بناء نموذج وطني قابل للإقناع والاحتضان،
وليس فقط إعلان شعارات فضفاضة دون مضمون عملي.
خاتمة الفصل
إن الطائفية لم تكن لعنة طبيعية،
بل كانت مشروعًا سلطويًا،
صُنع بعناية، ونُسج بخبث، واستُثمر بدموية.
والتحرر منها لن يكون بمناشدة الضمائر،
بل بهدم بنية السلطة التي غذتها،
وبناء عقد سياسي وطني جديد يحمي الإنسان كإنسان،
ويؤسس دولةً لا تسأل مواطنيها عن دينهم أو طائفتهم،
بل تضمن حقوقهم بوصفهم بشرًا أحرارًا متساوين.
إن مشروع النهضة السورية،
لا يستطيع أن يتقدم خطوة واحدة،
دون أن يحسم معركة الطائفية بوضوح وشجاعة:
هدم مشروع الطائفية،
وبناء مشروع المواطنة.