القسم الخامس
الفصل الرابع الطائفية والفعل الجمعي
دورة العنف والثأر في المجتمع السوري
مقدمة الفصل
لم يكن العنف الطائفي في سوريا مجرد انفجار عابر للغرائز،
ولا كان الانتقام الطائفي مجرد رد فعل مباشر على مظالم محددة،
بل تشكلت دورة مركبة من العنف والثأر،
غذتها بنية اجتماعية–سياسية مريضة،
ارتكزت على الفعل الجمعي لا على الفعل الفردي،
وعلى الهوية القسرية لا على المسؤولية الشخصية.
في هذا الفصل،
سنقوم بتفكيك دورة العنف الطائفي،
من جذورها البنيوية إلى آليات إعادة إنتاجها،
وسنحلل كيف تحولت الطائفة إلى وحدة سياسية–عسكرية بحد ذاتها،
وكيف أُخضع الأفراد لمنطق الثأر الجمعي،
وسنرسم ملامح الطريق الممكن لكسر هذه الدورة الجهنمية.
أولًا: الفعل الجمعي كمولد للعنف
1. تعريف الفعل الجمعي في السياق الطائفي
الفعل الجمعي هنا لا يعني فقط التحرك الجماعي،
بل يعني ذوبان القرار الفردي داخل قرار الجماعة،
حيث:
يتم اتخاذ القرار بالعنف أو بالثأر باسم الجماعة.
يتم تبرير الأفعال بناءً على سردية جماعية للظلم أو الخطر.
يتم تحميل المسؤولية للآخرين بناءً على هويتهم لا أفعالهم الفردية.
2. كيف ينتج الفعل الجمعي الطائفي العنف؟
يتم إلغاء الفوارق الفردية: كل فرد يصبح صورة مكثفة عن جماعته.
يتم تعميم المسؤولية: تُحمَّل جماعة بأكملها مسؤولية أفعال قلة منها.
يتم تبرير العنف المضاد كحق جماعي مشروع للدفاع أو للانتقام.
هكذا، تتشكل دائرة مغلقة من العنف الذي يغذي نفسه بلا نهاية.
ثانيًا: دورة العنف والثأر الطائفي – آلية التشكل
1. الشرارة الأولى: العنف التأسيسي
اعتداء طائفي (فعلي أو متخيل) يقع.
تُستدعى ذاكرة مظالم تاريخية أو معاصرة لتعظيم الإحساس بالخطر.
2. التضخيم الجمعي
يُعاد تفسير الحدث على أنه اعتداء على الجماعة كلها.
يُطلب من كل فرد في الجماعة الانحياز، مهما كان رأيه أو موقفه.
3. الانتقام الجماعي
يتم الرد عبر عنف موجه ضد جماعة بأكملها، لا ضد مرتكبي الفعل وحدهم.
يصبح العنف المضاد جزءًا من “واجب الدفاع عن الجماعة”.
4. تعميم الضحية
الجماعة المستهدفة ترد بالمثل:
تُفسر الهجوم ضدها كهجوم وجودي،
فترد بعنف جمعي،
وتدخل بدورها دائرة الفعل الجمعي الانتقامي.
5. ترسيخ الذاكرة الجمعية للثأر
تُصبح الأحداث اللاحقة تفسر دائمًا عبر منظار المظلومية والثأر.
ينتقل العنف من جيل إلى جيل عبر الحكاية والأسطورة والذاكرة المشحونة.
ثالثًا: آثار دورة العنف الطائفي على المجتمع السوري
1. سحق الفرد داخل الجماعة
يفقد الإنسان هويته ككائن حر مستقل.
يصبح مطلوبًا منه الدفاع عن جماعته حتى لو خالف ضميره الشخصي.
2. اختفاء مفاهيم العدالة الفردية
لا يعود يُنظر إلى الجرائم باعتبارها أفعالًا فردية.
بل تصبح جزءًا من صراع الجماعات الذي لا يميز بين مجرم وبريء.
3. ديمومة الحرب الأهلية الرمزية والمادية
حتى بعد توقف المعارك المسلحة،
تظل الكراهية والثأر تحكم العلاقات بين المكونات المجتمعية.
4. انهيار الثقة الوطنية
لا يعود الانتماء للوطن قادرًا على تجاوز انتماءات الطائفة.
تتحول مؤسسات الدولة إلى ساحة لتوزيع الغنائم الطائفية بدلًا من حماية الحقوق.
رابعًا: كيف تتم إعادة إنتاج دورة العنف؟
1. عبر التربية الاجتماعية
نقل الحقد والذاكرة الثأرية عبر الأسرة والتعليم غير الرسمي.
2. عبر الإعلام الطائفي
تضخيم الحوادث الفردية وتحويلها إلى وقائع طائفية عامة.
شيطنة الجماعات الأخرى بشكل منهجي.
3. عبر البنية السياسية–الأمنية
استثمار الطائفية في فرض ولاءات جماعية.
دعم قادة الطوائف كوسطاء للسلطة بدلًا من التعامل مع المواطنين كأفراد.
4. عبر غياب العدالة الانتقالية
عدم محاسبة الجرائم الفردية بشكل عادل،
مما يؤدي إلى ترسيخ الشعور بالظلم الجماعي،
ويجعل الثأر الطريق الوحيد لاسترداد الكرامة.
خامسًا: سبل كسر دورة العنف والثأر الطائفي
1. استعادة مفهوم المسؤولية الفردية
محاسبة الأفراد على أفعالهم، لا على انتماءاتهم.
رفض تعميم التهمة أو العقوبة على جماعات كاملة.
2. العدالة الانتقالية العقلانية
بناء جهاز عدلي مستقل يتعامل مع الجرائم بصفته حقوقًا فردية منتهكة، لا جرائم جماعية.
الاعتراف بالمعاناة الجماعية دون تبرير الانتقام الجماعي.
3. التعليم على ثقافة المواطنة
غرس قيم الفردية المسؤولة.
تعليم أن الانتماء للوطن أعلى من الانتماء للهويات الأولية.
4. نزع السلاح من الجماعات الطائفية
حصر السلاح في مؤسسات وطنية محايدة.
إنهاء الوجود العسكري الطائفي كشرط ضروري لأي سلم أهلي.
5. إنتاج سردية وطنية جديدة
سرد حكاية الألم السوري بطريقة جامعة لكل المكونات.
الاعتراف بكل الضحايا دون تمييز، دون تبرير، ودون انتقاء انتقائي للحقائق.
خاتمة الفصل
الطائفية والفعل الجمعي انتجا في سوريا حلقةً شيطانيةً من العنف والثأر،
حيث لا أحد بريء بالكامل، ولا أحد مذنب بمفرده،
وحيث تتحول المجتمعات إلى ساحات قتال لا تنتهي.
كسر هذه الدورة ليس مهمة عسكرية، ولا مهمة دبلوماسية،
بل مهمة ثقافية–أخلاقية–سياسية عميقة،
تقوم على إعادة تأسيس علاقة الإنسان بنفسه، وبجماعته، وبوطنه.
إن مشروع النهضة السورية،
لا يمكن أن يُكتب له النجاح،
ما لم نحرر المجتمع السوري من هذه الحلقة المغلقة،
ونعيد تأسيسه على قاعدة المواطنة الفردية،
والعدالة المسؤولة،
والهوية الوطنية الجامعة.
بهذا فقط، يمكن أن ندفن الطائفية بوصفها مشروعًا سياسيًا،
ونعيد بناء سوريا بوصفها وطنًا لجميع أبنائها،
لا مجرد حلبة لصراعاتهم الموروثة.