القسم الخامس
الفصل السابع العدالة الانتقالية وصناعة السلم الأهلي
من الانتقام إلى البناء الوطني
مقدمة الفصل
حين تنكسر المجتمعات تحت وطأة الاستبداد والحروب الأهلية،
لا يكون الألم مجرد شعور فردي، بل يتحول إلى جرح جمعي،
ينخر الهوية الوطنية ويغذي الكراهية والثأر والانتقام.
في سوريا،
حيث تعاقبت الجرائم والانتهاكات الجماعية على مدى عقود،
ثم تفجرت بكل وحشيتها خلال الثورة والحرب،
أصبح تحقيق العدالة مسألة وجودية:
لا فقط لإنصاف الضحايا،
بل لإنقاذ المستقبل نفسه من الانهيار المتكرر.
لكن هذه العدالة،
لا يمكن أن تكون عدالة انتقامية أو قسرية أو انتقائية،
ولا يمكن أن تكرّس الضغينة وتعيد إنتاج الكراهية بأدوات قانونية.
لهذا،
فإن العدالة الانتقالية ليست ترفًا، ولا مجرد جزء من المصالحة الوطنية،
بل هي البنية التحتية الأخلاقية والقانونية لبناء سلم أهلي حقيقي،
وللانتقال من ثقافة الانتقام والثأر إلى ثقافة الدولة العادلة والمواطنة الحرة.
أولًا: ماهية العدالة الانتقالية – المفهوم والدور
1. تعريف العدالة الانتقالية
العدالة الانتقالية هي مجموعة من الآليات القانونية والسياسية والاجتماعية،
التي تهدف إلى معالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال فترات النزاعات أو الحكم الاستبدادي،
بما يحقق:
الاعتراف بالضحايا،
محاسبة الجناة بعدالة،
إصلاح المؤسسات المسؤولة عن الجرائم،
ضمان عدم التكرار.
2. الفرق بين العدالة الانتقالية والعدالة التقليدية
العدالة التقليدية تسعى إلى معاقبة الجريمة كواقعة فردية معزولة.
العدالة الانتقالية تسعى إلى معالجة جراح جماعية، وإعادة بناء العقد الاجتماعي الممزق.
3. أهداف العدالة الانتقالية في السياق السوري
إنصاف الضحايا بدون خلق ضحايا جدد.
تفكيك ثقافة الإفلات من العقاب.
إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
تمكين التحول الديمقراطي عبر تفكيك المؤسسات القمعية القديمة.
ثانيًا: أركان العدالة الانتقالية في مشروع النهضة السورية
1. كشف الحقيقة
إنشاء لجان مستقلة لكشف الحقائق حول الجرائم والانتهاكات، بعيدًا عن الانتقائية أو التسييس.
2. المحاسبة العادلة
محاكمات عادلة للمسؤولين عن الجرائم الجسيمة، وفق معايير القانون الدولي لحقوق الإنسان.
التمييز الصارم بين الفاعلين المباشرين وبين من جرى الزجّ بهم قسرًا أو رمزيًا ضمن النزاعات.
3. جبر الضرر
تعويض معنوي ومادي للضحايا،
إعادة الاعتبار إلى المجتمعات المحلية المدمرة،
استعادة الكرامة الفردية والجماعية.
4. إصلاح المؤسسات
تطهير الأجهزة الأمنية والقضائية والإدارية من رموز الفساد والانتهاك.
إعادة هيكلة المؤسسات لضمان خضوعها لسيادة القانون وحقوق الإنسان.
5. ضمان عدم التكرار
سنّ قوانين دستورية تحول دون إعادة إنتاج بنية الاستبداد أو العصبية أو ثقافة الإفلات من العقاب.
ثالثًا: العدالة الانتقالية والسلم الأهلي – العلاقة الجوهرية
1. السلم الأهلي ليس مجرد وقف إطلاق نار
السلم الأهلي الدائم لا يمكن أن يتحقق دون عدالة تُداوي الجراح الحقيقية،
ودون نظام قانوني يعترف بالضحايا ويحاسب الجناة بشكل عادل.
2. العدالة كشرط لاستدامة السلم
بدون عدالة، تصبح المصالحة وهمًا،
ويفتح الطريق أمام دورات جديدة من الانتقام والعنف.
3. العدالة كأداة لبناء الذاكرة الوطنية
العدالة ليست فقط عقابًا، بل سردية وطنية تعترف بالألم والمعاناة وتؤسس لرواية جامعة تتجاوز الانقسامات.
رابعًا: مبادئ العدالة الانتقالية التي يجب التمسك بها
1. الفردية المطلقة للمسؤولية
لا يجوز تحميل جماعة بأكملها (طائفة، منطقة، إثنية) مسؤولية أفعال أفراد منها.
2. عدم الانتقام ولا الإذلال
المحاسبة تهدف إلى تحقيق العدالة، لا إلى إذلال الجماعات أو الفئات.
3. الشمولية وعدم الانتقائية
العدالة يجب أن تطال جميع المسؤولين عن الانتهاكات، بغض النظر عن هويتهم أو انتمائهم السياسي أو الطائفي.
4. التدرج والواقعية
يجب إدراك أن العدالة الانتقالية عملية طويلة،
تتطلب مراحل متعددة، وتوازنًا بين متطلبات المحاسبة وحاجات إعادة بناء المجتمع.
خامسًا: تحديات العدالة الانتقالية في الحالة السورية
1. غياب التوثيق الكامل
كثير من الجرائم وقعت في بيئات فوضوية دون أرشفة رسمية دقيقة.
2. كثافة الجرائم وتعدد الفاعلين
تعدد القوى المسلحة والفصائل يجعل تحديد المسؤوليات أكثر تعقيدًا.
3. مخاوف الانتقام الطائفي
بعض الأطراف قد تحاول استخدام العدالة كسلاح سياسي للانتقام الطائفي أو الفئوي.
4. ضغوط القوى الخارجية
بعض الجهات الدولية قد تسعى إلى تحييد بعض الفاعلين عن المحاسبة بحجة “الاستقرار” أو “الواقعية السياسية”.
سادسًا: خارطة طريق عملية لبناء عدالة انتقالية سورية
1. إنشاء هيئة مستقلة للعدالة الانتقالية
تتمتع بالاستقلال الكامل عن جميع السلطات التنفيذية.
تتكوّن من شخصيات حقوقية وقضائية وطنية، مع إشراف دولي تقني.
2. برنامج متكامل لكشف الحقائق
يعتمد على شهادات الضحايا، وتوثيق الجرائم، والأرشفة الرقمية.
3. إقامة محاكم خاصة مختلطة
تجمع قضاة سوريين وخبراء دوليين، لضمان أعلى معايير العدالة والنزاهة.
4. آليات جبر الضرر الجماعي والفردي
برامج تعويض للضحايا وأسرهم،
إعادة إعمار المناطق المنكوبة،
اعتراف رسمي بالمعاناة التي تعرضوا لها.
5. برامج إصلاح ثقافي وإعلامي
إعادة تعريف مفاهيم العدالة، والمسؤولية، والحقوق ضمن المناهج التعليمية والإعلام الوطني.
سابعًا: العدالة الانتقالية كخطوة تأسيسية لا يمكن تجاوزها
لا يمكن بناء دولة سورية حديثة على قاعدة نسيان الجرائم أو دفنها دون معالجة.
ولا يمكن أن تنشأ مواطنة حقيقية فوق جراح مفتوحة أو مظلوميات مستمرة.
العدالة الانتقالية هي الجسر الأخلاقي،
الذي يربط ماضينا الممزق بمستقبلنا الممكن،
ويمنح لكل فرد الشعور بأن كرامته محترمة،
وأن دولته الجديدة ليست امتدادًا للقهر القديم.
خاتمة الفصل
في مشروع النهضة السورية،
لا مكان للانتقام، ولا للتجاهل، ولا للمساومات الرخيصة على دماء الضحايا.
هناك فقط طريق واحد:
طريق العدالة الحقيقية،
عدالة تحفظ كرامة الجميع،
وتؤسس لمجتمع لا يعيد إنتاج أحقاده كل جيل.
بهذه العدالة،
نستطيع أن نبني سلمًا أهليًا صلبًا،
ونؤسس وطنًا يستحق أن يحمل اسمه الجديد:
سوريا الحرية والكرامة والمواطنة.