القسم الخامس
الفصل التاسع العقد الاجتماعي الجديد
الأساس السياسي للدولة السورية القادمة
مقدمة الفصل:
لم يكن غياب العقد الاجتماعي عن الدولة السورية مجرد خطأ عرضي أو قصوراً في البناء السياسي، بل كان في جوهره تعبيراً عن طبيعة السلطة نفسها: سلطة قهرية مفروضة على مجتمع لم تُتح له الفرصة يومًا أن يختار بإرادته شكل دولته ولا طبيعة انتمائه الوطني.
على مدار أكثر من نصف قرن، استُبدل العقد الاجتماعي الحرّ بعقد قسري غير مكتوب، قوامه الولاء الشخصي للحاكم، والخضوع لإملاءات الأجهزة الأمنية، والانتماء الإجباري لهوية سياسية فوقية أُلبست زوراً لجميع السوريين.
ومع انهيار هذا الشكل القسري، ومع انفجار التناقضات المجتمعية تحت وطأة الحرب، برزت الحاجة الملحّة إلى بناء عقد اجتماعي جديد: عقد لا يُفرض من فوق، ولا ينبثق من عصبيات طائفية أو أيديولوجيات إقصائية، بل ينبثق من الإرادة الحرة للمجتمع السوري، بكل مكوناته وأفراده، ليؤسس شرعية سياسية حقيقية ويضع أسس الدولة الوطنية المدنية الحديثة.
في هذا الفصل، نؤسس بوعي تراكمي وتحليل نقدي شامل لمفهوم العقد الاجتماعي الجديد، ونحدد مرتكزاته الفكرية والسياسية، ونرسم ملامح الطريق الشاق والضروري للوصول إليه، كقاعدة مركزية لا غنى عنها لبناء سوريا الجديدة.
أولًا: تعريف العقد الاجتماعي الجديد
العقد الاجتماعي، في جوهره، ليس مجرد نص دستوري أو وثيقة سياسية، بل هو اتفاق حر بين أفراد المجتمع على:
طبيعة السلطة التي يقبلون بها.
القواعد التي يحتكمون إليها.
الحقوق والواجبات المتبادلة بينهم وبين مؤسسات الدولة.
المبادئ التي تحكم علاقتهم بعضهم ببعض ضمن الفضاء العام.
وفي مشروع النهضة السورية، نؤكد أن العقد الاجتماعي الجديد يجب أن يتأسس على المبادئ التالية:
الحرية الفردية: كل إنسان يولد حرًا، ويملك الحق في تقرير مصيره دون وصاية جماعية أو سلطوية.
الندية الكاملة: لا تفوق لطائفة أو قومية أو جماعة على أخرى، بل تساوٍ تام في الكرامة والحقوق.
المواطنة الشاملة: المواطن هو وحدة السيادة، لا الطائفة، ولا الحزب، ولا القبيلة.
الشرعية التعاقدية: السلطة السياسية لا تكتسب مشروعيتها إلا برضا الأفراد عبر تفويض حر ودوري.
سيادة القانون: لا سلطان فوق القانون، ولا حماية لأحد خارج إطاره.
إن العقد الاجتماعي الجديد يجب أن يكون صريحًا وواضحًا ومؤسسًا بوسائل ديمقراطية شفافة، لا أن يبقى افتراضًا ضبابيًا أو أكذوبة سلطوية كما كان في الماضي.
ثانيًا: لماذا يحتاج السوريون إلى عقد اجتماعي جديد؟
إن الأسباب العميقة التي تفرض علينا تأسيس عقد اجتماعي جديد تتلخص في عدة نقاط جوهرية:
غياب العقد الاجتماعي الأصلي:
منذ الاستقلال، لم يُبنَ في سوريا عقد اجتماعي حقيقي جامع. كانت السلطة دائماً سابقة على التوافق المجتمعي، تُفرض بالقوة وتستمر بالعنف الرمزي والمادي.
الانفجار المجتمعي بعد الحرب:
الحروب الأهلية لم تحطم الدولة فقط، بل كشفت هشاشة التماسك الوطني. لم يكن الشعب متفقًا على هوية سياسية واحدة، بل انفجر إلى طوائف وعشائر وأقاليم متناحرة.
فشل كل المشاريع السلطوية:
من الدولة البعثية إلى شعارات الوحدة القومية، لم تُنتج التجارب السابقة إلا استبدادًا باسم الوطن، وقمعًا باسم القومية، وتطييفًا باسم التمثيل.
استحالة إعادة الإعمار السياسي بدون عقد جديد:
لا يمكن لأي عملية سياسية، أو مصالحة وطنية، أو إعادة بناء للثقة، أن تتم فوق الأسس المهترئة القديمة. لابد من بناء أساس تعاقدي جديد يعيد تعريف الانتماء، والمواطنة، والشرعية.
ضرورة إنهاء الحروب الهوياتية:
العقد الاجتماعي الجديد يجب أن يكون صمام أمان ضد العودة إلى منطق الجماعات، والثارات الطائفية، والتذرر المجتمعي.
ثالثًا: المبادئ التأسيسية للعقد الاجتماعي السوري الجديد
لأن العقد الاجتماعي هو القاعدة السياسية والأخلاقية للدولة القادمة، لا بد أن يتأسس على مجموعة مبادئ صلبة، هي:
- المساواة المطلقة أمام القانون:
لا تمييز بين المواطنين لأي سبب (ديني، طائفي، عرقي، مناطقي، طبقي، جنسي).
كل مواطن له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات.
- الحرية بوصفها الأصل:
حرية التفكير، التعبير، الاعتقاد، التنظيم، والمشاركة السياسية يجب أن تكون محمية قانونًا وفعلاً.
لا يجوز تعليق أو تقييد الحريات إلا وفق حالات استثنائية محددة بالقانون ووفق رقابة قضائية صارمة.
- السيادة الشعبية:
الشعب هو مصدر السلطات جميعًا.
كل سلطة سياسية تستمد شرعيتها من تفويض حر وشفاف ودوري، عبر الانتخابات والاستفتاءات الحرة.
- مدنية الدولة:
الدولة لا تمثل دينًا أو طائفة أو أيديولوجيا بعينها.
الدولة تحمي حرية الأديان، وتحمي أيضًا حرية المعتقد وعدم الاعتقاد.
- فصل السلطات واستقلال القضاء:
السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية يجب أن تكون منفصلة استقلالًا كاملًا.
القضاء هو الحامي الأول للحقوق والحريات، ولا يجوز التدخل في عمله أو إخضاعه لأي نفوذ سياسي.
- اللامركزية البناءة:
الإدارة المحلية حق سياسي وتنموي وثقافي، وليست مجرد تفويض خدمي.
تقر اللامركزية كوسيلة لتقوية الوحدة الوطنية، لا لتفتيتها.
- التعددية السياسية والاعتراف بالتنوع:
لا يجوز حظر أي نشاط سياسي أو اجتماعي أو ثقافي على أساس سلمي وقانوني.
التنوع يعتبر ثراءً وطنيًا، وليس تهديدًا للوحدة.
رابعًا: شروط بناء العقد الاجتماعي الجديد
لكي لا يكون العقد مجرد نص فارغ، لا بد من توفير الشروط التالية:
حوار وطني شامل: حوار فعلي وليس شكلي، يضم مختلف القوى الاجتماعية والسياسية والفكرية دون إقصاء أو إملاء.
كتابة تشاركية للدستور: من خلال جمعية تأسيسية منتخبة تمثل إرادة السوريين جميعًا.
استفتاء حر وشفاف على الدستور: بحيث يكون التعاقد حقيقيًا وملزمًا للجميع.
تجريم الانقلابات على العقد الاجتماعي: عبر تحصين الدستور والقوانين ضد أي محاولة للالتفاف على إرادة الشعب.
مؤسسات ضامنة: بناء مؤسسات مستقلة (قضائية، انتخابية، إعلامية) تراقب تنفيذ العقد وتحميه من العبث.
خامسًا: التحديات الكبرى أمام تأسيس العقد الاجتماعي
على أهمية العقد الاجتماعي الجديد، إلا أن الطريق إليه محفوف بتحديات ضخمة، منها:
ذاكرة الحرب والانقسام:
الجراح الطائفية، الأحقاد المترسبة، والخوف المتبادل تشكل عقبات نفسية أمام الثقة المتبادلة المطلوبة للعقد.
نفوذ قوى الأمر الواقع:
الفصائل المسلحة، الشبكات المافيوية، والزعامات الطائفية والعشائرية التي ستقاتل للحفاظ على امتيازاتها.
التدخلات الخارجية:
بعض القوى الإقليمية والدولية تدعم كيانات طائفية أو مشاريع تقسيمية تهدد أي مشروع وطني جامع.
ضعف المجتمع المدني:
بعد عقود من القمع والتهميش، يحتاج المجتمع المدني السوري إلى وقت وإرادة وعمل دؤوب ليستعيد دوره الحيوي في حماية العقد الاجتماعي.
خاتمة الفصل:
إن تأسيس عقد اجتماعي جديد في سوريا ليس ترفًا نظريًا ولا مطلبًا نخبويًا.
إنه الشرط الأول لبقاء الدولة، وبوابة الخروج من أزمنة الانهيار إلى أزمنة البناء.
دون عقد اجتماعي حر، واضح، نديّ، لن يكون هناك دولة، ولن يكون هناك سلم أهلي، ولا عدالة، ولا اقتصاد، ولا تنمية، ولا مستقبل.
ومشروع النهضة السورية إذ يطرح هذا الفصل، لا يفعل ذلك من باب المثالية الحالمة، بل من باب الضرورة الواقعية:
أن تُبنى سوريا الجديدة على تعاقد حر بين أفراد أحرار، وأن تنبع شرعية السلطة من إرادتهم، وأن تُحترم كرامة كل إنسان، بصرف النظر عن دينه أو عرقه أو مذهبه.
فبهذا وحده، تنتقل سوريا من زمن العصبيات والدمار، إلى زمن الدولة والمواطنة والنهضة.