القسم الخامس
الفصل العاشر الهوية الوطنية السورية
البناء المتعدد ضمن وحدة الدولة
مقدمة الفصل:
لم يكن الإخفاق السوري حكرًا على السياسة أو الاقتصاد أو الأمن، بل امتدّ ليطال المفهوم الأعمق الذي تقوم عليه الدول والمجتمعات: الهوية الوطنية.
فعلى مدى عقود، فشلت الأنظمة المتعاقبة في بناء هوية وطنية سورية جامعة.
استبدلت هذه الأنظمة مفهوم الهوية بمشاريع ضيقة: تارة قومية، تارة طائفية مستترة، وتارة انصهارية قسرية، جميعها قامت على الإلغاء لا على الاعتراف، وعلى الاستيعاب القسري لا على التعدد الحر.
ومع انفجار التناقضات الاجتماعية والسياسية في الحرب، تعرّت أزمة الهوية بكل عنفها وحدتها: مجتمع متعدد، لكن بدون عقد جامع؛ وطنيون بلا وطن يحمي تنوعهم؛ دولة قائمة بالاسم، لكنها مفككة بالواقع.
في هذا الفصل، نضع الأساس الفكري والسياسي لبناء هوية وطنية سورية جديدة، تحتضن التعدد، وتحوله من لعنة إلى نعمة، من قنبلة إلى رافعة، من تهديد إلى فرصة.
أولًا – تعريف الهوية الوطنية
الهوية الوطنية، كما نعتمدها في مشروع النهضة السورية، ليست حالة شعورية مبهمة، ولا شعارًا سياسيًا أجوف، بل هي:
مجموعة القيم والمبادئ التي يتوافق عليها المجتمع بوصفها تعبيرًا عن ذاته الجماعية.
الانتماء الطوعي إلى مجتمع سياسي مشترك، تُؤطره المواطنة، وتُحدده السيادة، وتُثريه التعددية.
الإحساس المشترك بالانتماء إلى مصير واحد، ومستقبل واحد، تحت مظلة دولة واحدة.
الهوية الوطنية ليست نفيًا للهويات الثقافية والدينية والعشائرية، بل إطار جامع يحترم التنوع ويحوّله إلى مصدر قوة.
ثانيًا – لماذا تفككت الهوية الوطنية السورية؟
لفهم ضرورة إعادة بناء الهوية الوطنية السورية، علينا تحليل أسباب تفككها البنيوي:
الطغيان القومي الإقصائي:
تم فرض هوية قومية عربية ضيقة لا تعترف بتنوع المجتمع السوري (الكردي، السرياني، الشركسي، الأرمني… إلخ)، مما ولّد الإقصاء وردود الفعل القومية المضادة.
استخدام الطائفية كأداة حكم:
بدلًا من بناء دولة مواطنة، عملت الأنظمة المتعاقبة على تقسيم المجتمع طائفيًا، لخلق ولاءات ما دون وطنية تُستخدم لضمان استمرار السلطة.
تهميش المناطق والأرياف:
تركيز السلطة والثروة في العاصمة، وإهمال الأقاليم، خلق شعورًا عميقًا بالاغتراب والانفصال لدى قطاعات واسعة من السوريين.
القمع الثقافي والسياسي:
كل محاولة للتعبير عن الخصوصيات الثقافية أو المطالب السياسية التعددية ووجهت بالقمع، مما زرع شعورًا دائمًا بالظلم والغربة داخل الكيان الوطني نفسه.
الحروب والأزمات:
الحرب الأخيرة فجرت كل التناقضات المكبوتة، وعمّقت الشرخ بين الجماعات السورية بدلًا من رأبها.
ثالثًا – مبادئ بناء الهوية الوطنية السورية الجديدة
لكي تكون الهوية الوطنية عامل توحيد لا تفريق، يجب أن ترتكز على مبادئ صلبة:
- الاعتراف بالتنوع:
التنوع القومي والديني والثقافي جزء لا يتجزأ من الهوية السورية.
كل المكونات تُعتبر روافد للهوية الوطنية، لا تهديدًا لها.
- المواطنة كأساس للانتماء:
لا انتماء سياسي إلا عبر المواطنة، وليس عبر الطائفة أو القومية أو العشيرة أو الحزب.
المواطن الفرد هو وحدة السيادة والانتماء، بغض النظر عن انتماءاته الخاصة.
- وحدة المصير:
مستقبل السوريين مشترك لا يتجزأ.
أي ضرر يصيب جزءًا من المجتمع يصيب الكل، وأي نجاح يحققه جزء يعود بالخير على الكل.
4 سيادة الدولة المدنية:
الدولة لا تتبنى هوية دينية أو قومية أحادية.
تحمي التعدد داخل حدود المواطنة الجامعة.
5 الذاكرة المشتركة:
الاعتراف المتبادل بالآلام والضحايا والمآسي التي عاشتها كل جماعة خلال الحرب.
بناء ذاكرة وطنية جامعة تقوم على الاعتراف والعدالة، لا على الإنكار والطمس.
رابعًا – آليات عملية لبناء الهوية الوطنية السورية
- صياغة دستور يعبر عن التعدد والوحدة معًا:
تضمين الدستور اعترافًا صريحًا بالتعدد الثقافي والديني واللغوي.
التأكيد على أن السيادة الوطنية والمواطنة هي القاسم المشترك الأعلى.
- تطوير المناهج التعليمية:
تعليم التنوع كمصدر فخر وطني، لا كتهديد.
تدريس التاريخ الوطني الشامل، بما فيه من انكسارات وانتصارات دون تزييف أو تزيين.
- إعادة بناء الخطاب الإعلامي والثقافي:
محاربة الصور النمطية والطائفية والقومية الإقصائية في الإعلام والثقافة.
تعزيز خطاب الانتماء الوطني الشامل الجامع.
- تمكين اللامركزية السياسية والثقافية:
الاعتراف بحق الأقاليم في التعبير عن خصوصياتها الثقافية ضمن إطار وطني جامع.
دعم اللغات والثقافات المحلية مع الحفاظ على وحدة الدولة.
- إطلاق مبادرات العدالة الانتقالية:
الاعتراف بالضحايا من جميع الأطراف دون تمييز.
السعي إلى مصالحة وطنية تقوم على الحقيقة والعدالة لا على النسيان والقهر.
خامسًا – تحديات إعادة بناء الهوية الوطنية
رغم أهمية المشروع، إلا أن الطريق محفوف بتحديات كبيرة، أبرزها:
استمرار النزعات الطائفية والقومية المتطرفة.
التدخلات الخارجية التي تغذي الانقسامات.
الضغوط الاجتماعية الناتجة عن تدهور الاقتصاد والمعيشة، مما يعمق العصبيات الضيقة.
الإرث الثقيل للقمع والتمييز وعدم الاعتراف.
هذه التحديات تتطلب إرادة سياسية صلبة، وصبرًا استراتيجيًا طويل النفس، وعملًا ممنهجًا على كل المستويات.
خاتمة الفصل:
إن بناء هوية وطنية سورية جديدة هو مهمة جيل كامل، لا مشروع مرحلة عابرة.
وهو ليس فقط مهمة نخبوية ولا مجرد عملية قانونية أو إدارية، بل هو مشروع وطني شامل يشمل التعليم، والثقافة، والسياسة، والاجتماع، والاقتصاد.
وفي مشروع النهضة السورية، نعتبر أن الهوية الوطنية الجامعة هي حجر الأساس الذي تقوم عليه كل مشاريع الدولة والمجتمع.
فدونها، لا دستور ينفع، ولا انتخابات تُجدي، ولا اقتصاد يُبنى، ولا عدالة تستقيم.
سوريا الجديدة يجب أن تكون وطن الجميع بحق، ومأوى التعدد، وحاضنة الانتماء، ومرآة الكرامة الإنسانية لكل فرد من أبنائها.
بهذا وحده، نصنع الدولة… ونصنع النهضة.