القسم الخامس
الفصل الخامس عشر بناء الثقافة السياسية الجديدة
من ثقافة الولاء إلى ثقافة العقد
مقدمة الفصل:
ليست السياسة مجرد إدارة للمصالح أو تنافس على السلطة.
في الأمم الحديثة، السياسة انعكاس مباشر للثقافة السياسية السائدة:
فإن سادت ثقافة الولاء الشخصي والعصبيات الأولية، غابت الدولة وحضر الاستبداد.
وإن ترسخت ثقافة العقد والندية والمواطنة، نشأت الديمقراطية، واستقرت الدولة.
لهذا، فإن مشروع النهضة السورية لا يكتفي بهندسة البنى الدستورية والمؤسساتية،
بل يرى أن بناء ثقافة سياسية جديدة هو الشرط الحيوي لاستدامة الدولة الحديثة.
أولًا – مأزق الثقافة السياسية التقليدية في سوريا
على امتداد القرن العشرين، ظلت الثقافة السياسية السائدة في سوريا مشدودة إلى أنماط ما قبل الدولة، تمثلت في:
ثقافة الزعيم الملهم:
حيث يتم اختزال السياسة كلها في شخص الفرد القائد الذي يحتكر الحكمة والإرادة.
ثقافة العصبية الطائفية والعشائرية:
حيث يتم فهم العمل السياسي كتعبير عن ولاءات موروثة، لا كممارسة حرة واعية.
ثقافة الخوف:
حيث السياسة عمل خطر محفوف بالعقاب، فيفضل المواطن الابتعاد أو التملق بدل المشاركة الحرة.
ثقافة الشعارات الجوفاء:
حيث تختزل الوطنية في ترديد شعارات لا تترجم إلى أفعال أو مسؤوليات.
هذه الثقافة أنتجت:
خضوعًا جماعيًا للاستبداد.
هشاشة مؤسسات الدولة.
استحالة بناء دولة قانون حقيقية.
ميلًا دائمًا إلى الانفجار الطائفي والعشائري عند الأزمات.
ثانيًا – معالم الثقافة السياسية الجديدة التي يتطلبها مشروع النهضة
لبناء دولة حديثة مستقرة، لا بد من ترسيخ ثقافة سياسية جديدة تقوم على:
- العقد الحر لا الولاء القسري:
السياسة ليست انتماءً غريزيًا لطائفة أو زعيم، بل تعاقد حر بين مواطنين أحرار.
العلاقة بين المواطن والدولة ليست علاقة رعية بحاكم، بل علاقة شراكة قائمة على الحقوق والواجبات.
- المسؤولية السياسية الفردية:
كل مواطن مسؤول عن خياراته السياسية،
لا يذوب في “جماعته” ولا يتنصل من المسؤولية باسم الطائفة أو القبيلة أو الحزب.
- الشرعية بالتمثيل لا بالفرض:
لا شرعية إلا عبر التفويض الحر في انتخابات ديمقراطية.
لا قداسة لأي سلطة أو زعيم، ولا استمرار للسلطة دون تجديد تفويضها الشعبي.
- احترام التعدد والتنوع:
التنوع الثقافي والديني والسياسي مصدر غنى، لا ذريعة للانقسام أو الاستبعاد.
الاختلاف في الرأي لا يعني الخيانة أو العداء، بل حيوية سياسية ضرورية.
- النقد والمراجعة الدائمة:
لا معصومين في السياسة.
النقد مسؤولية وطنية، والمراجعة جوهر أي عملية سياسية صحية.
ثالثًا – آليات بناء الثقافة السياسية الجديدة
- إصلاح المنظومة التربوية:
إعادة صياغة المناهج الدراسية لغرس قيم:
الحرية
المسؤولية
التعددية
الحوار
العقد الاجتماعي
تعليم الطلاب منذ الصغر أن الدولة ليست كيانًا فوقهم، بل ملكهم المشترك.
- تحرير الفضاء الإعلامي:
دعم الإعلام المستقل الذي يشجع النقاش الحر، ويكشف الانتهاكات، وينشر ثقافة النقد البنّاء.
مقاومة الإعلام الدعائي السلطوي الذي يكرس الولاءات العمياء والعداوات الطائفية.
- تنشيط المجتمع المدني:
تشجيع نشوء نقابات، جمعيات، منظمات حقوقية تعمل بحرية.
جعل المجتمع المدني مدرسة يومية للممارسة الديمقراطية التشاركية.
- ممارسة سياسية نموذجية:
بناء أحزاب سياسية مدنية قائمة على البرامج لا على الطوائف أو الشخصيات.
دعم قادة سياسيين يمثلون قيم العقد والمواطنة، لا زعامات القبائل والطوائف.
- العدالة الانتقالية التربوية:
عدم الاكتفاء بالمحاكمات القانونية لمنتهكي حقوق الإنسان.
بل إطلاق ورش تربوية وثقافية تعالج الوعي الجمعي المتشوه الذي سمح بالاستبداد.
رابعًا – التحديات المتوقعة أمام بناء هذه الثقافة
- مقاومة النخب التقليدية:
النخب الطائفية والعشائرية والدينية التي تستمد قوتها من ثقافة الولاء ستقاوم التحول نحو ثقافة العقد والمواطنة.
- التشوهات الناجمة عن الحرب:
انتشار ثقافة العنف، الثأر، التطييف السياسي، نتيجة سنوات من الاقتتال والانقسامات.
- التدخلات الإقليمية:
قوى إقليمية ستسعى لعرقلة بناء ثقافة سياسية وطنية، خوفًا من أن تصبح سوريا مثالًا على التعاقد الوطني المدني في المنطقة.
خامسًا – استراتيجيات مقاومة التحديات
تثبيت الدستور الوطني أولًا:
دستور يكرس العقد الاجتماعي بوضوح ولا يسمح بالعودة للولاءات الأولية.
الاستثمار طويل الأمد في التعليم والإعلام:
لأن بناء الثقافة السياسية لا يتم بقرارات فوقية، بل بتغيير الوعي تدريجيًا.
فتح المجال السياسي تدريجيًا:
السماح بتعددية حقيقية مع حماية السلم الأهلي في آن معًا.
ربط السياسة بالتنمية الاقتصادية:
لأن المواطن الذي يرى نتائج الديمقراطية على حياته اليومية يصبح أكثر استعدادًا للدفاع عنها.
خاتمة الفصل:
إن بناء دولة سورية حديثة لا يمر فقط عبر كتابة دساتير أو تأسيس مؤسسات،
بل عبر تأسيس عقل سياسي جديد،
يؤمن أن السياسة ليست طاعة عمياء ولا خصومة دموية،
بل عقد إرادي بين أحرار،
يُمارس بالنقد، بالمساءلة، وبالاختيار الحر.
إن ثقافة العقد السياسي الحر، لا ثقافة الولاء والغلبة،
هي التي ستصنع الفرق بين سوريا ممزقة إلى جماعات،
وسوريا موحدة في ظل دولة عادلة حديثة.