القسم الخامس
الفصل السادس عشر الهوية الوطنية
من إرث الانقسامات إلى مشروع جامع
مقدمة الفصل:
ليست الهوية الوطنية مجرد رواية رومانسية يرددها الإعلام أو الشعارات،
بل هي العمود الفقري للدولة الحديثة:
بدون هوية جامعة، تصبح الدولة مجرد إدارة مؤقتة لمجتمعات متنازعة.
وبدون شعور جمعي بالانتماء إلى وطن واحد، تصبح السياسة ساحة لصراعات طائفية وعرقية لا تنتهي.
في السياق السوري، كانت الهوية الوطنية دائمًا هشة، مشروطة، ومستلبة بين طموحات النخب، وهواجس الطوائف، وصراعات الخارج.
لهذا، فإن مشروع النهضة السورية لا يعتبر الهوية الوطنية مجرد قضية فرعية،
بل يضعها في صلب معركة إعادة بناء الدولة والمجتمع معًا.
أولًا – تشخيص أزمة الهوية الوطنية السورية
منذ الاستقلال وحتى اليوم، لم تنجح الدولة السورية في بناء هوية وطنية حديثة للأسباب التالية:
- هيمنة الهوية القسرية:
سعى النظام البعثي إلى فرض هوية عربية–قومية–إيديولوجية ضيقة،
مع تهميش أو إنكار الهويات الدينية والإثنية والثقافية الأخرى.
- تطييف الدولة:
السلطة تحولت إلى جهاز طائفي فعليًا، مما أعاد تعريف الهوية الوطنية وفق خطوط الولاء الطائفي والمناطقي.
- غياب العقد الاجتماعي الحقيقي:
لم يكن هناك تفويض حر وندي بين السوريين لتحديد هويتهم الجامعة، بل كان هناك فرض فوقي بالقوة.
- الأزمات المتكررة والانقسامات:
الثورات، الانقلابات، الحروب الإقليمية، كلها عززت الانتماءات الفرعية على حساب الهوية الوطنية.
- الاحتلالات والتدخلات الخارجية:
التدخل الأجنبي أعاد رسم خطوط الانقسام الطائفي والمناطقي، وأضعف الانتماء الوطني لمصلحة الولاءات الجزئية.
ثانيًا – فهم معنى الهوية الوطنية الحديثة
ليست الهوية الوطنية:
انكارًا للتنوع.
ولا ذوبانًا قسريًا للهويات الدينية أو الإثنية.
بل هي عقد جامع، يقوم على:
الاعتراف بالتنوع،
وإدارته ضمن إطار مدني مشترك،
يرتكز على المساواة في المواطنة،
واحترام الحقوق والحريات.
الهوية الوطنية الحديثة تعني:
أن تكون درزيًا أو كرديًا أو علويًا أو سنيًا أو مسيحيًا…
ولا يتناقض ذلك مع كونك سوريًا كامل المواطنة.
أن يكون انتماؤك السياسي للوطن لا لطائفتك أو منطقتك.
أن ترى الدولة كملاذ لكل أبنائها، لا كغنيمة لطائفة أو أداة لقمع الآخر.
ثالثًا – مبادئ بناء الهوية الوطنية الجديدة في سوريا
- التعددية المعترف بها دستوريًا:
الدستور يعترف بالتنوع اللغوي والديني والثقافي.
ويؤكد أن هذا التنوع جزء من ثراء الهوية الوطنية لا تهديد لها.
- المساواة المطلقة في الحقوق والواجبات:
لا امتياز لمكون على آخر.
لا تمييز في الوظائف، في التمثيل، في الحقوق السياسية.
- المواطنة كأساس للانتماء:
الانتماء إلى الوطن يقوم على الإرادة الحرة، لا على الإرث القسري أو العصبية.
- إدارة التنوع سياسيًا وثقافيًا لا أمنيًا:
حل مشكلات التنوع بالحوار والتدبير السياسي العادل،
لا بالقمع أو التحايل أو الفرض العسكري.
- إنتاج سردية وطنية مشتركة:
كتابة تاريخ وطني يعترف بكل معاناة السوريين،
دون تزييف أو تهميش أو اختزال لصالح طائفة أو حزب.
رابعًا – خطوات عملية لبناء الهوية الوطنية الجديدة
- إطلاق حوار وطني شامل:
يضم كل المكونات الدينية والإثنية والسياسية.
يناقش طبيعة الدولة، وقيم المواطنة، وحدود التنوع المشروع.
- صياغة دستور مدني ديمقراطي:
يضع قواعد الهوية الوطنية على أسس العقد الاجتماعي الحر، لا الإملاء الفوقي.
- إصلاح المناهج التعليمية:
غرس قيم الانتماء الوطني المدني منذ الطفولة، بدل الانتماء الطائفي أو الإيديولوجي الضيق.
- تطوير الإعلام الوطني:
صناعة خطاب إعلامي يوحد السوريين حول القيم الوطنية المشتركة،
بدل أن يعمق الشروخ الطائفية أو الجهوية.
- دعم الفضاء المدني:
تشجيع منظمات المجتمع المدني العابرة للهويات الضيقة،
التي تعمل على مشاريع وطنية شاملة.
خامسًا – التحديات أمام مشروع الهوية الوطنية
- الذاكرة الجماعية المجروحة:
عقود من العنف الطائفي والسياسي تركت جراحًا غائرة يصعب تجاوزها بسهولة.
- مقاومة النخب الطائفية:
كثير من القوى التقليدية ترى في مشروع الهوية الوطنية تهديدًا لمصالحها الفئوية.
- التدخلات الإقليمية:
بعض القوى الإقليمية والدولية تغذي الانقسامات لضمان استمرار نفوذها.
- ضعف الثقة بين المكونات:
سنوات الحرب والتخوين المتبادل أضعفت أسس الثقة الوطنية.
سادسًا – استراتيجية تجاوز التحديات
الاعتراف الصريح بكل المظالم:
لا مصالحة حقيقية دون مواجهة الماضي بشجاعة.
تمكين المجتمع المدني:
لأنه الأداة الأهم لإعادة بناء جسور الثقة.
تفكيك المحاصصات الطائفية:
وإحلال مبدأ المواطنة الفردية محل منطق الجماعة.
تغليب لغة القانون والدستور:
لضمان الحقوق بدل التعويل على الولاءات الطائفية.
خاتمة الفصل:
إن الهوية الوطنية ليست هدية مجانية،
ولا تنتج عن القرارات الإدارية أو الحملات الإعلامية السطحية.
إنها ثمرة نضال طويل لبناء عقد اجتماعي حر،
تعترف فيه كل مكونات المجتمع السوري ببعضها البعض،
وتتشارك الأرض والسيادة والمستقبل،
دون خوف أو استعلاء أو تهميش.
إن سوريا الجديدة لن تكون دولة “الأكثرية” ولا دولة “الأقليات”،
بل دولة المواطنين الأحرار،
دولة العقد الوطني الجامع،
الذي وحده يمنح الشرعية والاستقرار والأمل.