القسم الخامس
الفصل التاسع عشر الهوية الوطنية السورية الجديدة
من الانتماء القسري إلى التعاقد الحر
مقدمة الفصل
لطالما كان مفهوم الهوية الوطنية في سوريا محاصرًا بين نقيضين قاتلين:
من جهة، فرضت السلطات المتعاقبة هوية قسرية تماهت مع السلطة الحاكمة، فغابت عن السوريين هوية جامعة طوعية تحتضنهم جميعًا.
ومن جهة أخرى، استبقت الهويات الطائفية والعشائرية والمناطقية، فبدت وكأنها الملاذ الأخير أمام سطوة الاستبداد أو انهيار السلطة المركزية.
لقد كان غياب الهوية الوطنية الحقيقية أحد أهم أسباب تذرر المجتمع السوري، وأحد أعمق جذور الحرب والانقسام.
ولذلك، فإن مشروع النهضة السورية لا يمكن أن يُكتب له النجاح دون إعادة تأسيس مفهوم جديد للهوية الوطنية:
هوية لا تقوم على القسر، ولا تختزل الأفراد في طوائفهم وقبائلهم، بل تبني عقدًا حرًا يقوم على الإرادة الحرة والمواطنة المتساوية.
أولًا: الإشكالية التاريخية للهوية الوطنية السورية
مع الاستقلال، لم يتم تأسيس مفهوم وطني جامع يراعي تعددية المجتمع السوري (دينيًا، عرقيًا، ثقافيًا).
ساد مفهوم رسمي للهوية قائم على الدمج القسري أو الإقصاء الصامت، مع تجاهل للهويات الفرعية أو محاولة قمعها.
ارتبطت الهوية الوطنية بالمركزية السياسية في دمشق، وبنظام الحكم أكثر من ارتباطها بإرادة المواطنين الحرة.
نتيجة ذلك:
بقيت الانتماءات الطائفية والعشائرية فاعلة تحت السطح، بل تم استغلالها سياسيًا وأمنيًا.
تشكلت هوية “دولة–سلطة”، لا “دولة–مجتمع”، مما جعل سقوط السلطة يعني، في أذهان كثيرين، سقوط الوطن نفسه.
ثانيًا: مقومات الهوية الوطنية الجديدة
الهوية الوطنية السورية التي نسعى لتأسيسها يجب أن تقوم على المبادئ التالية:
المواطنة كأساس وحيد للانتماء السياسي: الفرد مواطنٌ لكونه إنسانًا يعيش على أرض سوريا ويحمل جنسيتها، وليس بسبب طائفته أو قبيلته أو إثنيته.
الندية الكاملة بين جميع السوريين: لا أفضلية لطائفة أو قومية أو منطقة على أخرى.
الاعتراف بالتنوع الثقافي واللغوي: بدون أن يتحول إلى أساس للتجزئة السياسية أو للمحاصصة.
فصل الهوية الوطنية عن أجهزة السلطة: بحيث لا تصبح الدولة ممثلة لطائفة أو حزب أو عشيرة، بل حاضنة للجميع على قدم المساواة.
إعلاء القيم المدنية فوق الولاءات الأولية: كالحرية، والعدالة، والكرامة، والمساواة.
ثالثًا: أخطاء الماضي التي يجب تجاوزها
لبناء هوية وطنية جديدة، يجب أن نتعلم من أخطاء التجربة السورية، وأبرزها:
فرض هوية أيديولوجية فوق المجتمع: كما حصل مع فرض الهوية القومية العربية الإقصائية، التي تجاهلت التنوع القومي والديني.
اختزال الوطنية بالولاء للسلطة: حيث أصبح الانتماء للوطن مرادفًا للولاء للنظام الحاكم، لا للانتماء لمجتمع مشترك.
إقصاء أو شيطنة المكونات المخالفة: كما عوملت بعض الجماعات الكردية، أو بعض المناطق المهمشة.
استغلال التنوع كأداة للسيطرة: عبر سياسة “فرّق تسد” التي عمقت الشرخ بدل معالجته.
إن تجاوز هذه الأخطاء شرط جوهري لصياغة هوية وطنية صحية وعصرية.
رابعًا: الهوية الوطنية كنتاج تعاقد لا كقدر جغرافي
الهوية الوطنية ليست معطًى جاهزًا يفرضه الجغرافيا أو التاريخ قسرًا.
بل هي تعبير عن تعاقد حر بين أفراد وجماعات يقررون العيش معًا ضمن دولة واحدة.
بهذا المعنى:
الهوية الوطنية السورية الجديدة يجب أن تكون ثمرة إرادة حرة، لا نتيجة قسر سياسي أو خوف طائفي.
يجب أن يشعر كل فرد وكل جماعة أن انتماءهم للوطن نابع من شراكة حقيقية متكافئة، لا من غلبة أو استتباع.
الوحدة الوطنية لا تعني ذوبان الهويات الفرعية أو نفيها، بل تعني تنظيمها ضمن إطار مدني–قانوني يساوي بينها جميعًا.
خامسًا: معايير بناء الهوية الوطنية الجديدة
نقترح المعايير التالية لبناء الهوية الوطنية السورية القادمة:
الاعتراف القانوني بالتعددية الثقافية والدينية واللغوية، دون السماح بتحولها إلى أسس للانقسام السياسي أو الإداري.
تثبيت مفهوم المواطنة المتساوية في الدستور والقوانين، كمرجعية عليا لكل الحقوق والواجبات.
حظر أي خطاب سياسي أو إعلامي يقوم على التمييز أو التحريض الطائفي أو العرقي.
اعتماد التربية الوطنية المدنية في المدارس والجامعات لترسيخ قيم المواطنة فوق الانتماءات الضيقة.
دمج الهويات الفرعية ضمن الهوية الوطنية عبر مؤسسات تمثيلية عادلة، تحترم الخصوصيات ضمن الإطار الجامع.
التعامل مع كل انتهاك على أساس فردي قانوني، لا على أساس جماعي طائفي أو عرقي.
سادسًا: تحديات بناء الهوية الوطنية السورية
لا يخفى أن بناء هذه الهوية سيواجه تحديات جدية، منها:
الإرث الثقيل من الانقسامات والحروب، وما خلفته من شكوك متبادلة بين المكونات.
محاولات قوى محلية أو إقليمية توظيف الهويات الفرعية لخدمة أجندات خاصة.
ضعف الطبقة السياسية الوطنية المستقلة القادرة على قيادة مشروع جامع.
عمق الجراح النفسية الناتجة عن جرائم الحرب والانتهاكات الطائفية.
كل هذه التحديات تفرض أن تكون عملية بناء الهوية الوطنية عملية متدرجة، صبورة، شفافة، قائمة على المشاركة الحقيقية لا على الفرض أو الوصاية.
خاتمة الفصل
إن الهوية الوطنية السورية التي نطمح إليها ليست قيدًا إضافيًا يفرض على الناس،
وليست شعارًا فارغًا يستخدم للسيطرة،
وليست قناعًا لتمويه الغلبة الطائفية أو العرقية.
بل هي مشروع تحرر جماعي من إرث الانقسام والاستبداد،
مشروع شراكة حرة بين أحرار،
مشروع تأسيس لوطن يحتضن جميع أبنائه بالحق والقانون، لا بالمنة والتمييز.
وحدها الهوية الوطنية التعاقدية الحرة قادرة على أن تكون الحصن الحقيقي ضد الانهيار،
وضمانة النهضة السورية المنشودة.