web analytics
القسم السادس

الهندسة المؤسسية لبناء أدوات الدولة السيادية

من الأجهزة إلى السياسات

مقدمة

(من تفكيك التبعية إلى تأسيس سلطة وظيفية خاضعة للمجتمع لا عليه)           

في قلب أي مشروع لبناء دولة جديدة، تقف مسألة الهندسة المؤسسية بوصفها الامتحان الأصعب بين الحلم والواقع، بين الطموح السيادي وبين الأعباء الإدارية، بين الإرادة الأخلاقية وبين البنية التنفيذية.

فالدولة ليست خطابًا رمزيًا ولا مجرد نوايا وطنية، بل منظومة مؤسسات فعّالة، متماسكة، خاضعة للضبط والمساءلة، تمارس السلطة كخدمة سيادية، لا كاحتكار سلطوي.

لكن في سوريا، لم تكن المؤسسات أجهزة حيادية تؤدي وظائف عامة، بل كانت في جوهرها أذرعًا أمنية أو حزبية أُنتجت لحماية السلطة لا لخدمة المجتمع، وتم تصميمها على نحو يعزّز الولاء، لا الكفاءة؛ الطاعة، لا المبادرة؛ التبعية، لا الرقابة.

وهكذا، حين سقط المركز السلطوي، انهارت الأجهزة تباعًا، لأنها لم تكن أدوات دولة، بل أدوات نظام.

لقد آن أوان إعادة التأسيس. لا عبر إعادة تدوير الخراب، ولا عبر نماذج جاهزة مستوردة، بل عبر تصميم مؤسسي جديد للدولة السورية، يقطع مع فلسفة الأجهزة المتضخمة، والسلطة فوق المجتمع، والإدارة كغنيمة أو أداة قمع، ويؤسس لعقد وظيفي–سيادي جديد تكون فيه المؤسسات خاضعة للحق، للناس، وللقانون.

هذا القسم لا ينطلق من فراغ، بل يستند إلى ما تمّ تفكيكه في الأقسام السابقة: من فلسفة الإنسان والسيادة، إلى قيم الحكم، إلى علاقة الدولة بالمجتمع.

ومن هنا يبدأ البناء المؤسسي، كامتدادٍ عضوي لتلك الفلسفة، لا كأداة تقنية فحسب.

الغاية من هذا القسم ليست فقط اقتراح هياكل، بل وضع تصوّر وظيفي شامل للدولة: كيف تُبنى الوزارات؟ كيف تُوزّع السلطات؟ ما الفارق بين جهاز وظيفي وآخر سلطوي؟ كيف نضمن الكفاءة دون مركزية قاتلة؟ كيف نجمع بين السيادة الإدارية والتمثيل الشعبي؟ كيف نضع السياسات لا الأشخاص في قلب الإدارة العامة؟

سيعالج هذا القسم، بابًا تلو الآخر، الأدوات السيادية الثلاثة التي تنهض عليها الدولة:

  1. السلطة السياسية (التنفيذية، التشريعية، القضائية).
  2. منظومات الحماية الحقوقية والعدالة الانتقالية.
  3. هيكل الدولة الإداري، والضبط الداخلي، وسياسات الخدمة العامة.

وسيُختَتم بتفصيل منظومات التنسيق الأعلى بين السلطات، واستراتيجيات منع تغوّل واحدة على الأخرى، لبناء دولة متوازنة، رشيدة، غير قابلة للاحتكار أو التفكك.

إننا لا نؤسس أجهزة، بل نعيد تعريف السلطة ذاتها،
ولا نصمّم وزارات، بل نبتكر أدوات للمعنى،
ولا نوزّع الوظائف، بل نبني مؤسسات تستحق أن تُخدم، وأن تُحاسَب، وأن تبقى.

أبواب القسم السادس - الهندسة المؤسسية لبناء أدوات الدولة السيادية