القسم السادس – الباب الثاني
الفصل العاشر هندسة منظومة التنمية الوطنية
من اقتصاد المحسوبية إلى اقتصاد السيادة والإنتاج
مقدمة:
إذا كانت السيادة السياسية شرطًا للنهضة، فإن السيادة الاقتصادية هي أداتها الفعلية ورافعتها العملية. ولا يمكن الحديث عن دولة مستقلة أو مشروع نهضوي دون تأسيس بنية تنموية متماسكة، تنطلق من الواقع السوري بظروفه وموارده، وتتجاوز الإرث الثقيل لاقتصاد الريع والفساد والمحسوبية، نحو نموذج إنتاجي سيادي يستثمر في الإنسان، ويعيد الاعتبار لقيمة العمل والمعرفة والموارد الوطنية.
هذا الفصل ليس مجرد توصيف لأزمة اقتصادية، بل هو جهد تأسيسي لإعادة هيكلة مفهوم التنمية في سوريا الجديدة، انطلاقًا من فهم متجذّر للمعوقات التي كبّلت البلاد لعقود، ووصولًا إلى تصميم هندسي شامل لمنظومة تنمية قادرة على تحقيق السيادة الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، والاستدامة البيئية، والدفع بمسار النهضة نحو التحقق المادي لا النظري فقط.
أولًا: منطق الانهيار – كيف تحوّلت التنمية إلى أداة لنهب الوطن؟
على مدى عقود، لم تكن التنمية في سوريا سياسة دولة بقدر ما كانت أداة سلطة، تُستخدم لإعادة توزيع الثروة على قاعدة الولاء والمحسوبية، لا على أساس التخطيط والاحتياج والكفاءة.
وقد أدى ذلك إلى نتائج كارثية أبرزها:
انهيار البنية الإنتاجية:
حيث جرى تهميش القطاعات الحقيقية المنتجة (الزراعة، الصناعة، الحرف) لصالح اقتصاد ريعي طفيلي قائم على المضاربة والاستيراد.
تفكك العدالة التنموية:
إذ ركزت السياسات على العاصمة والمناطق الموالية للنظام، بينما عانت باقي المحافظات من التهميش المتعمد وغياب البنية التحتية والخدمات الأساسية.
ترييف الدولة لا تنمية الريف:
حيث تم إغراق الإدارة العامة بعقليات غير مؤهلة تنتمي للمراكز الأمنية، دون أي مشروع تنموي حقيقي يعالج الفقر أو البطالة أو الهجرة من الريف.
تحالف الفساد والرأسمالية الطفيلية:
نشأت طبقة من المستفيدين، من رجال الأعمال المرتبطين بالأجهزة، حوّلت الدولة إلى مزرعة خاصة تقرر فيها الصفقات لا الخطط.
ثانيًا: المفهوم الجديد للتنمية الوطنية – فلسفة السيادة والإنتاج
إن هندسة التنمية لا تبدأ من خطة خمسية، بل من فلسفة جديدة ترى في التنمية مشروعًا للسيادة والتحرر من التبعية، ومجالًا لإنتاج الثروة المعرفية والاقتصادية والبيئية، وليست مجرد أرقام نموّ شكلية.
وتقوم هذه الفلسفة على المبادئ التالية:
الإنسان هو هدف التنمية ووسيلتها:
لا تنمية بدون تأهيل الإنسان السوري وتعليمه وتمكينه وإطلاق طاقاته في بيئة عادلة ومنتجة.
الموارد الوطنية كركيزة للسيادة:
استثمار النفط، الغاز، الثروات الزراعية، والثقافة المحلية، يجب أن يكون لصالح المجتمع لا لمصلحة مافيات السلطة.
العدالة المجالية والتنموية:
يجب تصحيح التشوّه التاريخي الذي جعل التنمية حكرًا على مناطق محددة، لصالح توزيع متوازن للمشاريع والفرص والبنى التحتية.
اللامركزية التنموية:
يجب أن تنطلق المشاريع من احتياجات المجتمعات المحلية وخططها الخاصة ضمن إطار وطني موحد، مما يعزز الكفاءة والرقابة الشعبية ويمنع الهدر.
الاقتصاد كمساحة لتحرر الإنسان لا لاستعباده:
أي نموذج اقتصادي لا يحقق الحرية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، يتحوّل إلى أداة للقمع والتمييز الطبقي.
ثالثًا: أركان النموذج التنموي الجديد في سوريا
- اقتصاد المعرفة والإنتاج
تحويل الجامعات ومراكز البحث إلى محركات إنتاج حقيقية، مرتبطة بسوق العمل والتنمية المحلية، بدلًا من كونها مؤسسات معزولة نظريًا.
ب. الزراعة كركيزة أمن قومي
إعادة الاعتبار للزراعة كمصدر رزق واستقرار غذائي واستقلال اقتصادي، وتحديث بنيتها من خلال تكنولوجيا الري، تسويق المحاصيل، ودعم الفلاحين.
ج. الصناعة الوطنية والإنتاج المحلي
تطوير الصناعات الصغيرة والمتوسطة القائمة على المواد المحلية، وربطها بسلاسل التوريد الإقليمية، وتقديم تسهيلات ضريبية وتشريعية لإحيائها.
د. اقتصاد اجتماعي تضامني
إنشاء منظومات دعم وتمويل تعاوني قائمة على الجمعيات والمبادرات الأهلية في القطاعات الإنتاجية، بما يضمن إدماج الفئات الضعيفة وتحقيق العدالة.
هـ. حوكمة التنمية ومكافحة الفساد
تحويل كل المشاريع التنموية إلى أدوات شفافة قابلة للرقابة والمحاسبة، وفرض معايير صارمة في التعاقدات العامة والمناقصات.
رابعًا: آليات التنفيذ وبنية التخطيط التنموي
1. إنشاء “هيئة وطنية للتخطيط التنموي والسيادي“
مؤسسة مستقلة دستوريًا، تُشرف على رسم السياسات العامة، وتقييمها دوريًا، وتتعاون مع السلطات المحلية والوزارات المعنية.
2. تفعيل مجالس التنمية المحلية
إنشاء مجالس تنمية في كل محافظة، منتخبة وممثلة للتخصصات والمجتمع المحلي، تُشرف على خطط المحافظة وتربطها بالخطة الوطنية.
3. ربط التمويل بالخطة الوطنية
منع التمويل العشوائي، وربط القروض والاستثمارات العامة ببنود خطط التنمية، لضمان تحقيق الأولويات الوطنية وليس المصالح الشخصية.
4. حشد رأس المال الوطني
توجيه رجال الأعمال السوريين في الداخل والمهجر لدعم مشاريع وطنية منتجة، عبر أدوات تحفيزية وقانونية واضحة وشفافة.
خامسًا: مآلات التنمية في مشروع النهضة – من العجز إلى الكرامة الاقتصادية
الهدف من هذا النموذج التنموي ليس فقط تحريك الاقتصاد، بل:
إعادة توزيع الثروة على أسس عادلة ومنتجة.
إنهاء التبعية الغذائية والطاقية.
بناء طبقة وسطى منتجة وقادرة على حماية الاستقرار السياسي.
خلق ثقافة عمل حقيقية بدل ثقافة الرعاية الزائفة.
تحويل المجتمع من متلقٍ للمعونات إلى شريك في الإنتاج والثروة.
خاتمة الفصل
إن هندسة التنمية الوطنية ليست مهمة تقنية ولا اقتصادية فحسب، بل هي قرار سيادي، ورؤية أخلاقية، وعقد اجتماعي جديد.
ولن تنجح أي نهضة في ظل فقر مدقع أو تفاوت طبقي قاتل أو اقتصاد قائم على الفساد والريع.
لهذا، فإن مشروع النهضة السوري يضع التنمية في قلب المعركة من أجل السيادة والكرامة والعدالة، ويؤسس لنموذج لا يسعى فقط للنجاة، بل للتمكين والريادة.