القسم السادس – الباب الثاني
الفصل الحادي عشر هندسة منظومة السيادة الثقافية
من التغريب القسري إلى المعنى الوطني
تمهيد عام
في عمق كل مشروع نهضوي حقيقي، تكمن معركة خفية لكنها حاسمة: معركة الهوية والمعنى.
فالثقافة ليست مجرد تراث أو ترف فكري، بل هي “الوعي الجماعي” الذي يحدد كيف يرى المجتمع نفسه، وكيف يتفاعل مع الآخر، وكيف يحدد أهدافه ووسائله وحدوده.
وفي سوريا، لم تكن معركة الثقافة يومًا حيادية أو عفوية، بل كانت ميدانًا للتلاعب، والقمع، والإقصاء، والاستلاب، حتى تحولت الثقافة الوطنية إلى فراغ كبير، أو إلى ساحة صراع بين مشاريع التغريب والاستلاب والانكفاء الطائفي أو الإيديولوجي.
ولذلك، فإن هندسة منظومة السيادة الثقافية لا تعني الترويج لخطاب دعائي أو شعارات فلكلورية، بل تعني بناء بيئة ثقافية واعية، حرة، منفتحة، متصالحة مع نفسها، ومحصنة ضد الاختراقات الخارجية والانقسامات الداخلية.
بكلمات أخرى: تعني تأسيس ثقافة وطنية حية تكون وقود النهضة ومصدر صمودها واستمراريتها.
أولًا: كيف فُقدت السيادة الثقافية في سوريا؟
لكي نفهم الحاجة إلى هندسة منظومة جديدة، علينا أولًا أن نحلل كيف تم تقويض السيادة الثقافية السورية عبر مراحل متعاقبة:
1. القطيعة مع الجذور الوطنية الأصيلة
عمدت الأنظمة المتعاقبة إلى طمس الهوية الوطنية الجامعة، إما عبر اختزالها في شعارات قومية مؤدلجة، أو عبر طغيان الخطابات الطائفية والمناطقية.
تم تهميش التراث الثقافي المحلي (الأدب الشعبي، الفنون التقليدية، الحكايات الجماعية) لصالح ثقافات مستوردة أو نخبوية منعزلة.
2. الأداتية السلطوية للثقافة
استخدمت الثقافة كأداة للدعاية السياسية، لا كوسيلة لتنمية الوعي أو تحرير الإنسان.
تم إخضاع المؤسسات الثقافية (اتحادات الكتاب، النقابات الفنية، الجامعات) للأجهزة الأمنية، فتحولت إلى أجهزة رقابة وقمع فكري.
- 3. اختراقات التغريب والاستلاب
شهدت العقود الأخيرة موجات من التغريب العشوائي غير النقدي، تبنّت أنماط حياة، وأفكار، وسرديات لا تمت بصلة للواقع السوري، مما زاد الاغتراب الثقافي.
في المقابل، ظهرت نزعات انغلاقية متشددة كرد فعل معاكس، فأنتجت خطابًا متحجرًا منغلقًا يعادي العصر والعقل معًا.
4. تجريف الفضاء المعرفي
تحولت المدارس والجامعات إلى مؤسسات تلقين لا تفكير، فتمت تصفية الفكر النقدي والعقل الحر، وأُنتجت أجيال مشوهة الوعي، سهلة الانقياد، مشوشة الهوية.
ثانيًا: فلسفة السيادة الثقافية في مشروع النهضة
السيادة الثقافية ليست مجرد حماية لهوية سابقة، بل هي عملية خلق دائم لهوية تتطور دون أن تُفقد ذاتها.
ولهذا، تقوم فلسفة السيادة الثقافية في مشروع النهضة السورية على المبادئ التالية:
الثقافة بوصفها حقًا جماعيًا وفرديًا:
لا يجوز احتكار التعبير الثقافي أو تقييده، ولا وصمه بمفاهيم الإلحاد أو الخيانة أو التخلف كما دأب الاستبداد أو التطرف.
الهوية السورية كوحدة تنوع وتفاعل:
الاعتراف بكل مكونات الشعب السوري الثقافية والدينية والإثنية، واعتبارها جزءًا حيًا من الهوية الوطنية الواحدة، لا تهديدًا لها.
التأصيل المعرفي والانفتاح النقدي:
الجمع بين الارتكاز على الجذور الثقافية السورية، والانفتاح الواعي على الثقافات العالمية دون استلاب أو تبعية.
تحرير الثقافة من قبضة السلطة:
فصل المؤسسات الثقافية عن الوصاية الأمنية والسياسية، وضمان حريتها القانونية والتمويلية والإدارية.
الثقافة كأداة للنهضة لا كزينة شكلية:
ربط الإنتاج الثقافي بعملية النهوض الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بحيث تغدو الثقافة ركنًا في بناء الإنسان والدولة لا ترفًا معزولًا.
ثالثًا: مكونات منظومة السيادة الثقافية الجديدة
1. تحرير المؤسسات الثقافية
إعادة تأسيس اتحاد الكتاب والفنانين والصحفيين وفق معايير الاستقلال والديمقراطية، بعيدًا عن وصاية أي جهة سياسية.
إطلاق حركة ثقافية حرة تتيح تأسيس مسارح، دور نشر، صالات عرض، دون قيود بيروقراطية أو أمنية.
2. إصلاح منظومة التعليم والمعرفة
إدخال مناهج تعليمية جديدة تقوم على التفكير النقدي، التحليل، الإبداع، وليس الحفظ والتلقين.
إدراج الفلسفة، الأدب العالمي، الفنون الحرة، في مراحل التعليم المختلفة لإعداد عقل نقدي حر.
3. استنهاض الإعلام الوطني الثقافي
تأسيس قنوات وإذاعات وصحف مستقلة تركّز على الثقافة الحية لا على البروباغندا.
دعم الإنتاجات السينمائية والمسرحية والفنية التي تعبر عن الإنسان السوري وقضاياه الحقيقية.
4. حماية التراث والهوية المحلية
إطلاق برامج لحماية التراث المادي واللامادي السوري (الآثار، الموسيقى، الحرف، القصص الشعبية) من الإهمال والسرقة والطمس.
إبراز التنوع الثقافي السوري باعتباره مصدر قوة وغنى لا تهديد أو ضعف.
5. تمكين المجتمع المدني الثقافي
دعم المبادرات الثقافية الشبابية المستقلة.
توفير فضاءات مفتوحة للنقاش والحوار العام الحر بين مختلف المكونات الفكرية والثقافية.
رابعًا: خطوات عملية لتحقيق السيادة الثقافية
تشريع قانون ثقافي وطني جديد يكفل حرية الإبداع والتعبير، ويحظر أي تدخل قمعي أو رقابي خارج سلطة القضاء المستقل.
تأسيس “مجلس وطني للثقافة” مستقل، يضع السياسات الثقافية الكبرى ويشرف على حمايتها وتطويرها.
إطلاق برامج وطنية للثقافة المحلية، تدعم الإنتاج الثقافي في القرى والمدن والمناطق المهمشة.
إدخال التكنولوجيا في خدمة الثقافة:
رقمنة التراث، إنشاء مكتبات رقمية، إنتاج محتوى ثقافي معاصر يصل للأجيال الجديدة بلغتهم وأساليبهم.
الارتباط بالمحيط العربي والإنساني عبر شراكات ثقافية دولية، دون تفريط بالهوية أو السقوط في التبعية الفكرية.
خامسًا: مآلات مشروع السيادة الثقافية – نحو هوية ناهضة ومتصالحة
بنجاح هذا المشروع، سنكون قد أنشأنا ثقافة سورية:
متجذرة في هويتها بلا تعصب.
منفتحة على العالم دون استلاب.
نقدية في وعيها دون عدوانية.
خلاقة في إنتاجها بدلًا من استهلاكها.
وعندها، لن تكون الثقافة مجرد ترف، بل ستغدو سلاحًا للتحرر، ومعبرًا للنهضة، وجسرًا متينًا يعبر به السوريون من مستنقع الانقسام والتبعية، إلى أفق السيادة والمعنى والكرامة.