web analytics
القسم السادس – الباب الثاني

الفصل الثالث عشر هندسة منظومة البحث العلمي والابتكار

من التبعية إلى الريادة

تمهيد عام

لا يمكن لدولة أن تخرج من ركام التخلف والهشاشة إلى مصاف الدول القادرة إلا إذا جعلت من البحث العلمي محورًا استراتيجيًا لنهضتها.

ولئن كان الاستثمار في الإنسان هو اللبنة الأولى لأي مشروع نهضوي، فإن الاستثمار في العقل الباحث والمبتكر هو الذي يحدد إن كانت هذه النهضة ستتحول إلى قفزة تاريخية، أم ستبقى مجرد تحسينات تجميلية هشّة.

في سوريا، لطالما وُضع البحث العلمي في هامش السياسات العامة، حتى قبل الحرب. فقد ساد تجهيل مُمَنهج، وتكميمٌ للفكر النقدي، وإهمالٌ كامل لبناء منظومة إنتاج المعرفة. ثم جاءت الحرب لتدمر ما تبقى من البنية التحتية المحدودة، وتُفرغ البلاد من طاقاتها العلمية عبر الهجرة أو القتل أو الإقصاء.

لذلك، فإن هندسة منظومة بحث علمي وابتكار متكاملة ليست ترفًا ولا خيارًا إضافيًا، بل هي شرط وجودي لأي نهضة سورية حقيقية قادمة. إنها الخط الفاصل بين أن نُبقى في ذيل العالم التابع المستهلك، أو أن نصبح فاعلين قادرين على ابتكار مستقبلنا بأنفسنا.

أولًا: تشخيص الواقع السوري الراهن في البحث العلمي

لفهم عمق الهوة التي يجب أن نعبرها، لا بد من تشريح الواقع البحثي والعلمي كما هو:

1. ضعف البنية المؤسسية

لا توجد مراكز بحثية مستقلة بالمعايير الحديثة.

الجامعات تحولت إلى مؤسسات تعليمية نظرية دون أي نشاط بحثي حقيقي.

غياب مراكز دراسات متخصصة قادرة على إنتاج معرفة استراتيجية لخدمة التنمية والسيادة.

2. الإقصاء السياسي والفكري

كان البحث العلمي محكومًا بولاءات سياسية لا بمعايير علمية.

مُنِع التفكير النقدي، وخُنق أي نشاط بحثي حرّ ومستقل.

3. الفقر المادي والمعنوي

موازنات البحث العلمي كانت لا تتجاوز 0.2% من الناتج المحلي (مقارنة بمتوسط عالمي يزيد عن 2% في الدول النامية نفسها).

عدم توفر مختبرات وتجهيزات حديثة.

غياب الحوافز للباحثين، وانعدام المسارات المهنية المجزية للعلماء.

4. الانفصال عن المجتمع والاقتصاد

البحوث إن وُجدت كانت أكاديمية نظرية لا ترتبط باحتياجات المجتمع أو أولويات الاقتصاد.

غياب آليات تحويل المعرفة إلى منتج أو خدمة قابلة للتطبيق الاقتصادي والاجتماعي.

5. استنزاف الكفاءات

موجات الهجرة المكثفة للعقول السورية: أطباء، مهندسين، علماء، باحثين.

غياب البيئة الحاضنة لعودة أو استبقاء الطاقات العلمية.

ثانيًا: فلسفة بناء منظومة البحث العلمي في مشروع النهضة

تقوم فلسفتنا على المبادئ التالية:

البحث العلمي أداة سيادة:
لأن الدول التي تنتج معرفتها تفرض شروطها على العالم، والدول التي تستهلك معارف الآخرين تظل رهينة للخارج.

الابتكار هو جوهر الاقتصاد الحديث:
فالقيمة الاقتصادية المستقبلية ستُصنع من الأفكار والابتكارات أكثر مما تُصنع من الموارد الخام.

العلم محرر لا خادم للسلطة:
يجب بناء منظومة بحثية حرة ومستقلة، لا خاضعة للولاء السياسي أو البيروقراطية العقيمة.

الربط الحيوي بين البحث والمجتمع:
بحيث تُوجَّه البحوث لحل مشكلات المجتمع السوري وإطلاق طاقاته الكامنة، لا لمراكمة النظريات المعزولة.

ثالثًا: مرتكزات منظومة البحث العلمي الجديدة

1. الاستقلالية والحرية الأكاديمية

فصل البحث العلمي عن السلطة التنفيذية المباشرة.

ضمان حرية الفكر والاستقصاء والنشر ضمن معايير أخلاقية وقانونية واضحة.

إنشاء مجلس أعلى مستقل للبحث العلمي والابتكار.

2. الاستثمار الجاد

تخصيص ما لا يقل عن 2% من الناتج المحلي الإجمالي للبحث العلمي خلال 10 سنوات تصاعديًا.

بناء وتمويل مراكز بحثية حديثة في جميع المجالات الحيوية.

3. بناء قاعدة بشرية قوية

دعم برامج إعداد الباحثين من مرحلة التعليم الجامعي.

منح دراسية داخلية وخارجية مركزة على البحث والابتكار.

توفير حوافز مادية ومهنية لاستبقاء العلماء وإعادة استقطاب الكفاءات المهاجرة.

4. الربط مع الاقتصاد والمجتمع

إنشاء حاضنات تكنولوجية ومراكز نقل التكنولوجيا.

دعم الشراكات بين الجامعات والشركات والمؤسسات الحكومية.

تشجيع البحث التطبيقي الموجه نحو احتياجات القطاعات الإنتاجية والخدمية.

5. انفتاح دولي ذكي

عقد شراكات بحثية استراتيجية مع مؤسسات عالمية رائدة.

الاستفادة من التجارب الدولية دون الوقوع في التبعية الفكرية أو التقنية.

إنشاء منصات تبادل معرفي دولي مفتوح.

رابعًا: أولويات البحث العلمي في سوريا الجديدة

من دون تحديد الأولويات، قد تضيع الجهود في ترف فكري بلا أثر. لذا نرسم خريطة الأولويات الوطنية:

1. الأمن الغذائي والزراعي

أبحاث تحسين الإنتاج الزراعي.

استصلاح الأراضي.

إدارة المياه والموارد الطبيعية.

2. الطاقة المتجددة

أبحاث الطاقة الشمسية والريحية والبديلة.

حلول للطاقة منخفضة الكلفة مناسبة للبيئة السورية.

3. التكنولوجيا والبرمجيات

دعم الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في مجالات الأمن والصحة والتعليم والإدارة.

تطوير حلول برمجية للسوق السورية والإقليمية.

4. الصحة والدواء

تطوير الصناعات الدوائية الوطنية.

أبحاث الصحة العامة والتقنيات الطبية.

5. البنية التحتية والإعمار

تطوير مواد بناء جديدة مستدامة ومنخفضة الكلفة.

أبحاث المدن الذكية والبنى التحتية المقاومة للكوارث.

6. العلوم الاجتماعية والإنسانية

أبحاث إعادة بناء النسيج الاجتماعي السوري.

دراسة آثار الحرب والنزوح وإعادة التأهيل الاجتماعي والنفسي.

خامسًا: خارطة الطريق لتأسيس المنظومة

المرحلة الأولى (1–3 سنوات): البناء السريع

إصدار قانون وطني جديد للبحث العلمي.

تأسيس المجلس الأعلى للبحث العلمي والابتكار.

إطلاق برنامج وطني لاستعادة العقول المهاجرة.

المرحلة الثانية (4–7 سنوات): التوسع والتأصيل

إنشاء شبكة مراكز بحثية وطنية متخصصة.

إدخال البحث التطبيقي ضمن صلب المناهج الجامعية.

إطلاق صناديق تمويل بحثي مستقلة.

المرحلة الثالثة (8–15 سنة): التمكين والسيادة

بناء منظومة اكتفاء ذاتي معرفي في المجالات الحيوية.

ربط نتائج البحث العلمي مباشرة بالتخطيط الاقتصادي الوطني.

دخول سوريا إلى خريطة الإنتاج العلمي العالمي المرموق.

سادسًا: النتائج المنتظرة

بناء مجتمع سوري قائم على المعرفة، لا على التلقين.

تحوّل سوريا إلى منتج إقليمي للمعرفة والتقنية، لا مجرد مستهلك.

تحقيق قفزة اقتصادية قائمة على الابتكار الذاتي.

استعادة العقول المهاجرة وإعادة دمجها في مشروع وطني نهضوي.

بهذا، لا يصبح البحث العلمي “ترفًا أكاديميًا”، بل يتحول إلى أداة بناء وطن ومصير.
لأن الأمم لا تنهض إلا حين تعيد هندسة وعيها، وإرادتها، وعقلها الجمعي، بما يجعلها شريكًا لا تابعًا، خالقًا لا مقلدًا.