web analytics
القسم السادس – الباب الثاني

الفصل السادس عشر هندسة إعادة بناء الإعلام الوطني

من البروباغندا إلى المهنية السيادية

مقدمة:

من بين أبرز أدوات إعادة بناء الدولة الوطنية بعد الاستبداد، تبرز ضرورة هندسة منظومة الإعلام الوطني بطريقة منهجية وعلمية دقيقة. فالإعلام، الذي كان لعقود أداة تضليل وخضوع وتزييف للوعي، يجب أن يتحول إلى دعامة مركزية لبناء الوعي المجتمعي الحر، وترسيخ سيادة القانون، وحماية المكتسبات الدستورية والحقوقية.
لا يمكن بناء منظومة عدالة وطنية حقيقية دون إعادة تأهيل الإعلام ليكون حارسًا للرأي العام، ورقيبًا نزيهًا على السلطات، ومصدرًا موثوقًا للمعرفة المدنية.

إن مشروع النهضة السورية، بانطلاقته التأسيسية، لا يعامل الإعلام بوصفه وسيلة إخبارية فقط، بل كرافعة ثقافية–سياسية–حقوقية–مجتمعية، وكقوة بنيوية تساهم في تثبيت قيم المواطنة، وتعزيز النقد الموضوعي، وصناعة التشاركية الواعية في القرار العام.

أولاً: من تشريح الاستبداد الإعلامي إلى تأسيس المهنية الوطنية

لقد أنتج النظام الاستبدادي منظومة إعلامية قائمة على الأكاذيب الممنهجة، والتعتيم على الحقائق، وتضخيم صورة السلطة وقمع الرأي الآخر. وكانت البروباغندا الرسمية في خدمة “عبادة الفرد”، وتحويل الإعلام إلى جهاز تعبئة وحشد، لا إلى منصة تواصل وطني.

لذلك، فإن تفكيك بنية الإعلام الاستبدادي لا يقتصر على تغيير الخطاب، بل يتطلب:

تفكيك شبكات الفساد داخل المؤسسات الإعلامية.

تحرير الصحافة من السيطرة الأمنية والسياسية المباشرة وغير المباشرة.

إعادة بناء القيم المهنية والأخلاقية داخل الوسط الإعلامي.

صياغة منظومة تشريعية ضامنة لحرية التعبير ولحقوق الإعلاميين.

ثانيًا: المبادئ الأساسية لهندسة الإعلام الوطني الجديد

الاستقلالية التامة:
فصل الإعلام عن أية تبعية للسلطة التنفيذية أو الأحزاب الحاكمة، وجعله خاضعًا فقط لمبادئ الدستور والقانون.

المهنية والموضوعية:
بناء إعلام يقوم على التحقق من المعلومات، احترام قواعد التحقيق الصحفي، والابتعاد عن التجييش والشحن العاطفي.

التعددية والتمثيل الشامل:
ضمان تمثيل جميع أطياف المجتمع السوري في وسائل الإعلام، بما يعكس التنوع القومي والديني والثقافي.

المسؤولية الأخلاقية:

اعتبار حرية التعبير ليست رخصة للفوضى الإعلامية أو للتحريض، بل مسؤولية وطنية توازن بين النقد الحر وبين حماية السلم الأهلي.

الشفافية والمساءلة:
إخضاع المؤسسات الإعلامية لآليات رقابة مهنية مستقلة تضمن نزاهتها، ومحاسبة أي تجاوزات قانونية أو مهنية.

ثالثًا: إعادة هيكلة المؤسسات الإعلامية

تتطلب إعادة بناء الإعلام السوري الوطني وضع خطة عمل مرحلية وعميقة تشمل:

إنشاء هيئة وطنية مستقلة للإعلام
تكون مهمتها منح التراخيص، مراقبة الأداء، حماية الحريات الصحفية، وتنظيم معايير العمل المهني.

تحرير المؤسسات القائمة
من شبكات السيطرة السابقة، مع إعادة هيكلتها إدارياً وقانونياً لضمان استقلالها.

دعم الإعلام المحلي والمجتمعي
لتوسيع المشاركة الشعبية، وتحقيق التوازن بين المركز والأطراف.

إعادة تأهيل الكوادر الإعلامية

عبر برامج تدريبية مكثفة في القوانين الدولية لحقوق الإنسان، أخلاقيات الصحافة، التحقق من الأخبار، والتغطية في النزاعات والأزمات.

تطوير التشريعات الإعلامية

بحيث تضمن حرية الصحافة وتحظر الرقابة المسبقة، مع وضع ضوابط قانونية تحمي المجتمع من خطاب الكراهية والتحريض.

رابعًا: التحديات المحتملة في إعادة بناء الإعلام

مخلفات البنية الذهنية الاستبدادية
سواء لدى بعض الإعلاميين أو لدى قطاعات من الجمهور، ممن اعتادوا نمط الإعلام الدعائي.

محاولات بعض القوى السياسية توظيف الإعلام
لخدمة أجنداتها الفئوية أو الإيديولوجية، مما يستدعي تشديد ضمانات الاستقلالية.

الفوضى المعلوماتية والانفلات الرقمي
الذي قد يعرقل بناء إعلام مهني، ويتطلب وضع أطر قانونية تحكم الإعلام الرقمي مع حماية حرية التعبير.

محدودية الموارد المالية
في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية، مما قد يؤثر على تمويل وسائل الإعلام المستقلة.

خامسًا: الخطوات العملية المقترحة

تشكيل مجلس وطني للإعلام يضم شخصيات مستقلة من الإعلاميين والقانونيين والحقوقيين.

مراجعة شاملة للقوانين المتعلقة بالنشر والإعلام، وإصدار قانون عصري لحرية الصحافة.

إطلاق مبادرة “إعلام النهضة” التي تشمل تأسيس قنوات وصحف ومنصات إعلامية وطنية جامعة.

تبني ميثاق شرف إعلامي وطني يحدد القيم والمبادئ المُلزِمة لكل المؤسسات والعاملين في القطاع الإعلامي.

دعم الإعلام التنموي والتوعوي في القضايا المجتمعية الحساسة (حقوق المرأة، العدالة الاجتماعية، قضايا اللاجئين، بناء السلم الأهلي).

 

 

سادسًا: الإعلام الوطني كدعامة للعدالة والديمقراطية

لا تكتمل هندسة العدالة الانتقالية دون إعلام مستقل.

الإعلام الجديد سيكون شاهدًا على تنفيذ العدالة، ومنبرًا للمطالبة بالحقوق، وجسرًا لبناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
إن تأسيس إعلام وطني حر ليس ترفًا إصلاحيًا، بل شرطٌ وجوديٌ لبناء دولة سورية مدنية، سيادية، ديمقراطية، قابلة للحياة.