القسم السابع – الباب الأول
الفصل الثامن توازن السلطات
من الفوضى المؤسساتية إلى التكامل الوظيفي
أولًا: في مركز الخلل – دولة بلا توازن سلطات
لم تكن معضلة الحكم في سوريا نابعة فقط من طبيعة الأشخاص، بل من بنية سلطوية مصمَّمة لتركّز السلطات في يد واحدة، وتعطّل مبدأ الفصل والتوازن بينها.
فالدستور، حين يُفرغ من مضمونه، يتحوّل إلى واجهة تُغطي تغوّل السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية.
وحين لا يكون هناك استقلال حقيقي للمؤسسات، تصبح الدولة ملعبًا للفوضى المؤسساتية، حيث تُستثمر السلطات لتصفية الحسابات، وتُفرغ الوظائف من مضمونها، وتُشلّ آليات المحاسبة.
وهكذا، لم تعد السلطة التشريعية تمثّل الشعب، بل صارت مكمّلة للسلطة التنفيذية.
أما السلطة القضائية فغُيّبت عمليًا، إما بالتبعية أو بالحصار أو بالاستنساب.
وكانت النتيجة: دولة سلطوية تحت ستار الدستور، لا نظام مؤسسات متكامل.
ثانيًا: توازن السلطات في الدولة النهضوية – تصحيح الهندسة من الجذر
لا يُبنى النظام الديمقراطي الحديث على الفصل بين السلطات فقط، بل على التوازن والتكامل بين هذه السلطات.
فالفصل يمنع الاحتكار، والتوازن يمنع الفوضى، والتكامل يضمن الفعالية.
في هندستنا للدولة السورية الجديدة، لا نكتفي بتفكيك نموذج السيطرة، بل نُعيد تركيب منظومة الحكم على أساسات ثلاث:
فصل الوظائف: بحيث تكون كل سلطة قائمة بذاتها، محددة الوظيفة والحدود.
آليات التفاعل والرقابة المتبادلة: حيث تراقب كل سلطة الأخرى من دون خنقها أو تعطيلها.
تحديد الصلاحيات بوضوح دستوري وقانوني: لمنع الغموض الذي يُستخدم ذريعة للهيمنة أو الشلل.
ثالثًا: شروط التوازن الفعلي بين السلطات
لكي لا يكون “توازن السلطات” شعارًا قانونيًا فارغًا، بل ممارسة حقيقية، نؤسس على الشروط التالية:
تحصين استقلال القضاء دستوريًا وماليًا وإداريًا.
جعل البرلمان سلطة فعلية لا صورية، عبر:
ضمان تمثيله الشعبي الحقيقي.
منحه صلاحية التشريع والرقابة والمساءلة.
منع حله أو تعطيله إلا ضمن شروط محكمة.
تقييد صلاحيات السلطة التنفيذية بحيث لا تتجاوز الدستور، ولا تهيمن على التشريع أو القضاء.
فرض رقابة شعبية ومؤسساتية على العمل الحكومي، وتفعيل الإعلام المستقل كمكوّن رقابي رابع فعّال.
ترسيخ مبدأ سيادة الدستور فوق الجميع، دون استثناءات سلطوية أو سياسية أو دينية أو أمنية.
رابعًا: آليات التفاعل المؤسسي بين السلطات
نعيد هندسة العلاقة بين السلطات في الدولة السورية النهضوية عبر:
آليات استجواب حكومي دورية من قبل البرلمان.
منح القضاء سلطة مراجعة دستورية القوانين والمراسيم الصادرة عن البرلمان والحكومة.
تشكيل هيئة دستورية عليا مستقلة تفصل في النزاعات بين السلطات.
اعتماد توازن في التعيينات العليا من خلال:
دور تشريعي في التصديق.
رقابة قضائية على الشروط القانونية والأخلاقية.
اعتماد ميزانية شفافة تقرّ من قبل البرلمان، وتخضع لرقابة قضائية مستقلة.
خامسًا: ضمانات عدم الانقلاب على التوازن
أي توازن بين السلطات بدون ضمانات يصبح هشًّا أمام أول أزمة سياسية أو أمنية. ولهذا، يجب تثبيت قواعد الحماية التالية:
دسترة الفصل والتوازن بوصفه مبدأ مؤسسًا لا خيارًا سياسيًا.
تحديد مهام كل سلطة بدقة في القوانين الناظمة.
منع السلطة التنفيذية من التمديد أو تغيير قواعد اللعبة خلال الحكم.
إرساء ثقافة المشاركة داخل المؤسسات السياسية والحزبية.
تمكين المجتمع المدني والمواطن من لعب دور الرقيب الفعلي.
خاتمة الفصل وخاتمة الباب الأول: لا دولة بلا توازن
توازن السلطات ليس ترفًا قانونيًا ولا إجراءً تنظيميًا، بل هو جوهر النظام السياسي السليم، وضمانة بقاء الدولة ككيان يخدم المجتمع لا يلتهمه.
فلا قيمة لأي إصلاح أو بناء مؤسسي إذا بقيت سلطة واحدة تهيمن وتُقصي وتُعيد إنتاج الاستبداد بأدوات جديدة.
ففي الجمهورية السورية النهضوية التي نسعى لبنائها،
لا سلطان على الدولة إلا الدستور،
ولا سلطان فوق الشعب إلا إرادته،
ولا مستقبل إلا بتوازنٍ يردع التغوّل… ويُطلق الفعالية.