web analytics
القسم الثامن – الباب الأول

الفصل الثاني بناء السلطة التشريعية

من الإرادة الشعبية إلى الآليات النيابية

مقدمة تمهيدية:

إذا كانت السلطة التنفيذية تُجسّد القرار، فإن السلطة التشريعية تُجسّد الإرادة. وهي، في أي منظومة سيادية متوازنة، لا تُبنى كجهازٍ شكلي يُنتخب ثم يُعطّل، بل كمؤسسة حيوية تُعبّر عن الوعي الجمعي وتُعيد تشكيله، تُشرعن الفعل التنفيذي، وتُراقبه، وتُقيده، وتُحاسبه.

لكن في الحالة السورية، التي تخرج من نظامٍ شمولي صادَر الحياة النيابية لعقود، وزيّف الانتخابات، وألغى الفضاء السياسي العام، فإن مجرد إعادة تشكيل برلمان لا يكفي. ما نحتاجه هو إعادة بناء الوظيفة التشريعية من الجذر، عبر:

استعادة ثقة الناس في جدوى التمثيل،

وضع آليات انتخاب شفافة وحقيقية،

منع تحويل المجلس إلى أداة بيد السلطة التنفيذية،

وتأسيس علاقة جديدة بين المجتمع والنيابة تقوم على التمثيل، لا التبعية.

هذا الفصل لا يقدّم نموذجًا مستوردًا للبرلمان، بل يطرح تصورًا وظيفيًا–سياديًا لإعادة بناء السلطة التشريعية في سوريا الجديدة، بوصفها تجسيدًا للإرادة الوطنية الجامعة، لا لموازين القوة المؤقتة أو الاصطفافات الفئوية.

أولًا: فلسفة التشريع ومكانة البرلمان في الدولة السيادية

السلطة التشريعية ليست مجرّد جهة لإصدار القوانين، بل هي التعبير المؤسسي الأرقى عن السيادة الشعبية. إنها الساحة التي تتحوّل فيها الإرادة الجمعية إلى قواعد حاكمة، تُنظّم العلاقة بين الفرد والدولة، وتُخضع الدولة نفسها للقانون.

وفي السياق السوري الجديد، لا بدّ من تجاوز النموذج الورقي للبرلمان، الذي كان دائمًا تابعًا للسلطة التنفيذية، وتحويله إلى سلطة فعلية:

مستقلة في التكوين؛

فعّالة في الرقابة؛

راشدة في التشريع؛

جامعة في تمثيل مكونات المجتمع دون محاصصة ولا تمييز.

ثانيًا: البنية المؤسسية للسلطة التشريعية – من الإرادة إلى التنظيم

  1. مجلس النواب – السلطة التمثيلية العليا

يُنتخب بالاقتراع الحر المباشر في دورة تأسيسية انتقالية، بعد تثبيت الدستور المؤقت.

تمثيله قائم على مبدأ المواطنة، لا الطائفة، ولا العرق، ولا الحزب.

يُنظّم توزيع المقاعد عبر دوائر انتخابية تضمن التوازن بين الكثافة السكانية والتنوع الجغرافي، مع آليات تكميلية لتمثيل المناطق الخارجة من الحرب.

صلاحياته تشمل:

التشريع الكامل؛

الرقابة على الحكومة؛

منح أو حجب الثقة؛

المصادقة على الموازنات والخطط العامة؛

مساءلة الوزراء ورئيس الحكومة؛

المصادقة على التعيينات العليا؛

الموافقة على المعاهدات والاتفاقيات السيادية.

  1. الغرفة الثانية – مجلس السيادة الوطني (إن اقتضى السياق)

إذا استدعت المرحلة الانتقالية ذلك، يمكن إنشاء غرفة ثانية مؤقتة تمثل:

المجالس المحلية المنتخبة؛

النقابات والاتحادات المهنية؛

المناطق المتضررة التي تحتاج إلى صوت مباشر في إدارة الدولة؛

الفئات التي يصعب تمثيلها انتخابيًا مباشرة في المرحلة الأولى (مثل ذوي الاحتياجات الخاصة، اللاجئين، إلخ).

وظيفتها:

مراجعة القوانين السيادية الكبرى؛

مراقبة الانتقال الدستوري؛

ضمان التوازن بين المركز والمحيط؛

تعزيز التشاركية المجتمعية في الرقابة التشريعية.

ثالثًا: تنظيم العلاقة بين المجلس التشريعي والسلطات الأخرى

السلطة التشريعية لا تخضع للسلطة التنفيذية بل تراقبها وتحاسبها؛

السلطة القضائية تُراقب مطابقة القوانين للدستور (رقابة لاحقة)؛

لا يحق للسلطة التنفيذية حلّ المجلس إلا ضمن شروط استثنائية ووفق ضوابط دستورية صارمة؛

يجب أن يمتلك البرلمان وسائل الرقابة الكاملة: لجان، أدوات مساءلة، تقارير إلزامية، صلاحيات إيقاف القرارات التنفيذية المخالفة للدستور.

رابعًا: ضمانات نزاهة التمثيل النيابي – من الشكل إلى المضمون

إنشاء مفوضية عليا مستقلة للانتخابات تُشرف على كل مراحل العملية الانتخابية؛

تفعيل حق الطعن والرقابة الشعبية والقضائية على نتائج الانتخابات؛

فرض سقف مالي للإنفاق الانتخابي؛

ضمان التغطية الإعلامية المتوازنة والمتاحة لكل المرشحين؛

منع استخدام موارد الدولة أو الأجهزة الرسمية في الدعاية الانتخابية.

خامسًا: المسار الانتقالي لتشكيل السلطة التشريعية

إطلاق مؤتمر تأسيسي وطني يحدد الأسس المؤقتة للتمثيل في المرحلة الانتقالية؛

إجراء انتخابات تأسيسية أولى تحت إشراف وطني ودولي مشترك؛

تمكين المجالس المحلية المنتخبة من لعب دور رقابي–تشاوري في غياب البرلمان؛

وضع خارطة طريق زمنية واضحة للانتقال من التمثيل التوافقي إلى التمثيل النيابي الكامل؛

إقرار نظام داخلي صارم يحمي استقلال المجلس وينظّم عمله الرقابي والتشريعي بفعالية.

خاتمة الفصل:

لا تتحقق السيادة من دون تمثيل. ولا قيمة للتمثيل من دون مؤسسة نيابية قوية، شرعية، فاعلة، ومستقلة. ومن خلال هذا الفصل، نكون قد وضعنا حجر الأساس لبناء السلطة التي تعكس صوت الشعب لا صورته، وتحمي الإرادة الجمعية من التزييف، وتمهّد للانتقال إلى دولة القانون عبر التشريع والرقابة. لننتقل الآن إلى استكمال البنية السيادية عبر صياغة السلطة القضائية، بوصفها الحارس الأخير للعدالة والنظام العام.