web analytics
القسم الثامن – الباب الأول

الفصل الثالث بناء السلطة القضائية

من النصوص إلى السلطة الفعلية المستقلة

مقدمة تمهيدية:

إن أي حديث عن دولة قانون، لا يستقيم دون تأسيسٍ فعليّ لسلطة قضائية مستقلة، فعّالة، وعادلة.

ولأن التجربة السورية قد شهدت واحدة من أعمق حالات تسييس القضاء، وامتهان استقلاله، وتحويله إلى جهاز تنفيذي تابع، فإن إعادة بناء السلطة القضائية لا يمكن أن تُختزل بإصلاح النصوص، أو سن قوانين جديدة، بل تتطلب تفكيك البنية العميقة لانهيارها، ثم إعادة تشكيلها وفق منطق سيادي جديد.

القضاء، في الدولة السيادية التي ننشدها، ليس ملحقًا بالنظام، ولا ذراعًا من أذرع الحكومة، بل هو سلطة قائمة بذاتها، تستمد شرعيتها من الدستور، وتحكم باسم الشعب، وتُمارس رقابتها على كل ما عداها من سلطات، بما فيها التشريعية والتنفيذية، ضمن حدود القانون.

هذا الفصل يُقدّم خطة تأسيسية لإعادة بناء السلطة القضائية السورية، ليس فقط كجهاز حكم، بل كمؤسسة عدالة، وكأداة ميزان، وكركيزةٍ لا يمكن لدولة أن تنهض دونها.

أولًا: المنظور الفلسفي لبناء القضاء – من الحكم إلى العدالة

ليس المقصود من القضاء إصدار الأحكام فحسب، بل ضمان المعنى العميق للعدالة بوصفها أحد شروط الشرعية السياسية.
فكما يشير الفيلسوف الأميركي جون رولز، فإن العدالة ليست مجرّد قيمة أخلاقية، بل هي بنية تنظيمية تحكم توزيع الحقوق والواجبات والفرص داخل المجتمع.

وفي الدولة السورية الجديدة، التي يجب أن تُعاد صياغتها بعد حقب القمع والتفكك، لا يمكن لعدالة شكلية أن تُنتج ثقة، ولا لقضاءٍ هشّ أن يُنتج استقرارًا. المطلوب هو:

تفكيك الارتباط بين القضاء والسلطة الأمنية؛

إعادة تأهيل الجهاز القضائي معرفيًا ومهنيًا وأخلاقيًا؛

تفعيل الرقابة المؤسسية المتبادلة؛

بناء منظومة قضاء متكاملة، تبدأ من المواطن وتنتهي عند المحكمة الدستورية.

ثانيًا: هندسة السلطة القضائية – من التبعية إلى الاستقلال البنيوي

  1. القضاء سلطة لا وظيفة

يُنصّ دستوريًا على كون القضاء سلطة مستقلة بذاتها لا تتبع لا للحكومة ولا لرئاسة الدولة.

لا يجوز تعديل وضع القضاة، أو نقلهم، أو مساءلتهم إلا عبر هيئات قضائية داخلية.

تُجرّم كل أشكال الضغط السياسي أو الأمني أو الإعلامي على القضاة.

  1. مجلس القضاء الأعلى – مرجعية التنظيم والتأهيل والتقييم

يُنشأ مجلس قضاء أعلى يُشكَّل من قضاة منتخبين من داخل السلك القضائي، ويُراعى فيه التخصص والتوازن الجغرافي–المهني.

يتولّى:

تعيين القضاة وترقيتهم وتأديبهم؛

الإشراف على التكوين المهني والأخلاقي للقضاة؛

ضمان استقلال الميزانية الإدارية للقضاء؛

وضع خطط التوزيع الجغرافي للمحاكم والهيئات القضائية؛

تمثيل القضاء أمام باقي السلطات.

  1. المحاكم والدوائر القضائية – بناء هرمي تكاملي مستقل

يُعاد تشكيل هيكل المحاكم بدءًا من:

محاكم البداية والصلح؛

محاكم الاستئناف؛

محاكم التمييز؛

المحاكم المتخصصة (مدنية – جزائية – أحوال شخصية – أحداث – إدارية).

تُمنح المحاكم الاستقلال الإداري والمالي، ويُحظر تدخل أي جهة تنفيذية في عملها.

  1. إنشاء مدارس قضائية وطنية لإعادة تأهيل القضاء السوري

تُؤسس مدرسة عليا للقضاء، تتولى:

التكوين العلمي والفلسفي للقضاة الجدد؛

إعادة تأهيل القضاة العاملين بما ينسجم مع المعايير الدولية؛

تقديم دورات مستمرة في النزاهة، قانون حقوق الإنسان، استقلال القضاء، مبادئ المحاكمة العادلة؛

إخضاع القضاة لتقييم دوريّ يربط الأداء بالمعايير الأخلاقية–القانونية لا بالولاءات.

ثالثًا: الرقابة على القضاء – من الحصانة إلى المسؤولية

استقلال القضاء لا يعني إطلاقه من كل مساءلة، بل يعني إخراجه من التبعية السياسية، دون أن يُرفع فوق القانون أو فوق المجتمع.

يُفعّل جهاز التفتيش القضائي كمؤسسة مستقلة، تخضع لمجلس القضاء الأعلى؛

يُنشأ ديوان شكاوى المواطن لتلقي الطعون والمراجعات على أداء القضاة؛

يتم اعتماد نظام شفاف لنشر الأحكام القضائية، والبيانات الإحصائية عن الأداء القضائي العام؛

يُدرج القضاء ضمن تقارير الحوكمة العامة والرقابة على مؤسسات الدولة.

رابعًا: العدالة كشرط تأسيسي للانتقال السياسي

العدالة لا تبدأ بعد الاستقرار، بل هي شرط لتحقيقه؛

لا يُمكن إقناع المواطنين بالاندماج في الدولة الجديدة دون محاكم نزيهة تُعاملهم كمواطنين لا كخصوم؛

العدالة الانتقالية يجب أن تُبنى فوق سلطة قضائية حقيقية، لا فوق لجان سياسية؛

المحاكم الإدارية يجب أن تكون أولى المحطات الفعلية لاستعادة ثقة المواطن بالدولة.

خامسًا: الخطة الانتقالية لإعادة تأسيس السلطة القضائية

تجميد جميع التعيينات القضائية السابقة لفحص شرعيتها واستقلاليتها؛

إعادة هيكلة مجلس القضاء الأعلى وتفعيل صلاحياته الكاملة؛

إطلاق حملة وطنية لتقييم الجسم القضائي وإعادة فرزه؛

تفعيل مؤقت لمحاكم خاصة لإدارة النزاعات الطارئة ضمن ضوابط صارمة؛

البدء ببناء محاكم محلية ميدانية مؤقتة في المناطق الخارجة من سيطرة الاستبداد؛

ربط العدالة الانتقالية بالعدالة القضائية، لا بعقوبات عشوائية أو انتقامية.

خاتمة الفصل:

حين تستعيد السلطة القضائية مكانتها كسلطة حارسة للشرعية لا أداة بيد الحاكم، تكون الدولة قد بدأت تخرج من منطق القوة إلى منطق القانون. وفي الحالة السورية، لن يكون لأي إصلاح سياسي أو مؤسسي جدوى إذا لم يترافق مع إعادة جذرية لبناء قضاء مستقل، نزيه، فعّال، وغير قابل للارتداد. وهكذا، ننتقل بعد هذا الفصل إلى أحد أبرز الضمانات المؤسسية لهذه الاستقلالية: تأسيس المجلس الأعلى للقضاء، بوصفه البنية العليا لإدارة العدالة وتكريس نزاهة السلطة القضائية.