القسم الثامن – الباب الأول
الفصل الخامس إنشاء المحكمة الدستورية العليا
من التوصيف إلى التفعيل
مقدّمة تمهيدية:
في الدول الحديثة، لا تكفي النية السياسية ولا الشعارات السيادية لضمان احترام الدستور، بل لا بد من وجود سلطة عليا متخصصة، مستقلة، ووظيفية تتولى حماية النص الدستوري من التعدي، وتُراقب تطابق القوانين والإجراءات مع المبادئ المؤسسة للدولة.
تلك هي وظيفة المحكمة الدستورية العليا، التي لا تُعد ترفًا قانونيًا أو مؤسسة رمزية، بل هي الفاعل الحاسم في ضبط إيقاع الحكم، ومنع انزلاق السلطات إلى التغوّل أو التناقض، وضمان استقرار البنية التشريعية والسياسية في سياق ما بعد التحول.
وفي الحالة السورية، التي شهدت عقودًا من التلاعب بالنصوص، وانتهاك الدستور، وتفريغ المؤسسات من وظائفها، فإن إنشاء محكمة دستورية مستقلة وفعّالة يُشكّل شرطًا غير قابل للتأجيل لبناء الدولة الجديدة، وضمان عدم الارتداد عن مبادئ السيادة والمواطنة.
أولًا: فلسفة المحكمة الدستورية – من سلطة فوق النص إلى حارسة له
تستند المحكمة الدستورية العليا في وجودها إلى مبدأ سمو الدستور، أي أن كل سلطة أو قانون أو ممارسة، مهما علا شأنها، يجب أن تخضع لما ورد في الدستور من مبادئ وضمانات.
وكما يرى الفقه الدستوري المعاصر (من هانس كلسن إلى أليكسِي)، فإن وظيفة المحكمة ليست إصدار الأحكام فحسب، بل تثبيت البنية القيمية للنظام السياسي، وتحقيق وحدة معيارية تمنع التناقض بين النص والممارسة.
ولذا، فإن المحكمة لا تُمارس الحكم باسم القانون فحسب، بل باسم السيادة ذاتها، بوصفها مؤتمنة على العقد الاجتماعي الأعلى بين الدولة ومواطنيها.
ثانيًا: التكوين المؤسسي للمحكمة – من التعيين إلى الضمان المؤسسي
- تشكيلة المحكمة:
تتكون من 9 إلى 11 عضوًا، من بينهم:
قضاة دستوريون؛
أساتذة قانون دستوري متخصصون؛
خبراء في فلسفة القانون أو الفقه الدستوري المقارن؛
- آليات التعيين:
يُنتخب ثلث الأعضاء من قِبل مجلس القضاء الأعلى؛
يُنتخب الثلث الثاني من قبل المجلس التشريعي؛
يُرشّح الثلث الأخير من هيئات مستقلة (مثل مفوضية حقوق الإنسان، أو هيئة الدفاع عن الدستور) ويُقرّهم المجلس التشريعي بالأغلبية المطلقة؛
لا يُعيَّن أي عضو من قِبل رئاسة الدولة أو الحكومة بشكل مباشر.
- مدة الولاية:
تُحدّد بثماني سنوات غير قابلة للتجديد، مع آلية تناوب جزئي كل أربع سنوات لتجديد التشكيلة دون تفريغها؛
لا يجوز عزل القاضي إلا عبر محكمة تأديبية خاصة تابعة للمحكمة نفسها.
ثالثًا: اختصاصات المحكمة الدستورية – من الرقابة إلى الحماية
الرقابة على دستورية القوانين والمراسيم واللوائح التنظيمية؛
البت في المنازعات الدستورية بين السلطات الثلاث؛
تفسير النصوص الدستورية الغامضة عند الخلاف المؤسسي؛
الرقابة على دستورية الاتفاقيات الدولية قبل التصديق عليها؛
الفصل في الطعون الانتخابية المتعلقة بالبرلمان والرئاسة؛
الفصل في دستورية الإجراءات الاستثنائية في حالات الطوارئ؛
النظر في طلبات إسقاط الحصانة القضائية أو السياسية في حالات الخرق الدستوري الجسيم.
رابعًا: معايير الاستقلال والنزاهة
الاستقلال المؤسسي الكامل: للمحكمة موازنتها الخاصة، وتُقدَّم تقاريرها مباشرة للشعب عبر البرلمان، لا عبر الحكومة.
العلنية والشفافية: تُنشر قراراتها مع حيثياتها كاملة، ويُبث بعضها علنًا عندما تتعلق بالقضايا الوطنية الكبرى.
التحصين من التدخل السياسي: تُجرَّم محاولات الضغط على المحكمة، ويُمنع على أعضائها الانتماء إلى أحزاب أو حركات سياسية.
الضمانات التأهيلية: يشترط في أعضاء المحكمة سجل نظيف من أي انتماء سابق لأجهزة أمنية أو فساد سياسي أو انتهاكات حقوقية.
خامسًا: المسار التأسيسي لإنشاء المحكمة في سوريا الجديدة
إلغاء المحكمة الدستورية السابقة، ونزع شرعية تشكيلها القائم على التعيين السلطوي؛
سن قانون تأسيسي يحدد المعايير والشروط الموضوعية لتشكيل المحكمة الجديدة؛
تشكيل هيئة دستورية انتقالية مؤقتة تتولى مهام المحكمة ريثما يتم تشكيلها رسميًا؛
دمج المحكمة الدستورية في سياق العدالة الانتقالية من حيث دورها في مراجعة القوانين الاستثنائية السابقة؛
فتح المجال أمام المواطنين والمؤسسات للطعن المباشر أمام المحكمة في المرحلة الانتقالية، توسيعًا للرقابة الشعبية.
خاتمة الفصل:
تشكل المحكمة الدستورية العليا سقف الشرعية في الدولة الجديدة، وهي ليست أداة تقنية، بل ركيزة سيادية تحمي مشروع النهضة من التآكل والانحراف. وفي سوريا، التي تم فيها تزوير المعنى القانوني لعقود، ستكون هذه المحكمة الحارس الأعلى للمعايير، الضامن لسمو الدستور، وصوت القانون الأعلى في وجه كل سلطة متغوّلة. وبها نكمل بناء منظومة السلطة، وننتقل إلى الفصل السادس، حيث نُنهي هذا الباب بتحديد آليات الضبط والتوازن بين السلطات، منعًا للتداخل أو التنازع أو الاحتكار.