القسم الثامن – الباب الرابع
الفصل الرابع عشر إنشاء المجلس الأعلى للتنمية الوطنية
مقدّمة تمهيدية:
في كل دولة خارجة من الانهيار، لا يكفي بناء المؤسسات، بل لا بد من بناء عقل استراتيجي جامع، يُشخّص الواقع، يُحدّد الأهداف، يُدير الإمكانات، ويقود عمليات التنمية على المستوى الوطني.
ولأن وزارة التخطيط في سوريا كانت طوال عقود مجرد واجهة شكلية تابعة للسلطة التنفيذية، وعاجزة عن التفكير أو الفعل، فإن تأسيس المجلس الأعلى للتنمية الوطنية يجب أن يشكّل تحولًا نوعيًا في منهج التخطيط ذاته، وفي آلية صناعة القرار التنموي، وفي العلاقة بين الدولة والمجتمع والإنتاج والمعرفة.
المجلس الجديد لا يُصمَّم بوصفه دائرة حكومية، بل بوصفه هيئة سيادية للتخطيط الاستراتيجي الوطني، تمتلك صلاحيات حقيقية، وتعمل بمنهج علمي تشاركي، بعيدًا عن الارتجال السياسي أو التحكّم الإداري.
أولًا: موقع المجلس ووظيفته ضمن الدولة السيادية
- وظيفة المجلس:
رسم السياسات التنموية العليا للدولة؛
إعداد الخطط الوطنية متوسطة وطويلة الأجل (5–10–20 سنة)؛
ربط السياسة الاقتصادية بالتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية؛
مراقبة تنفيذ الخطط والمشاريع وتقييم جدواها على المستويين المركزي والمحلي؛
ضمان التوازن بين القطاعات (الزراعة – الصناعة – الخدمات – البنية التحتية – البيئة – التعليم – الصحة – الثقافة) ضمن رؤية شاملة.
- موقعه المؤسساتي:
يتبع المجلس مباشرة لرئاسة الدولة، ويعمل باستقلال إداري ومالي؛
لا يُعدّ بديلًا عن الوزارات، بل موجّهًا استراتيجيًا لها؛
يملك صلاحية التوصية بالتعديل أو الإيقاف أو إعادة التقييم لأي مشروع استراتيجي لا يحقق أهداف التنمية الوطنية؛
يُحيل توصياته إلى البرلمان والمجلس التنفيذي الأعلى.
ثانيًا: البنية التنظيمية للمجلس
- التشكيل:
يُشكَّل من 21 عضوًا كحد أقصى، وفق توازن معرفي وقطاعي وإقليمي، ويضم:
خبراء في الاقتصاد، السياسات العامة، البنية التحتية، التنمية الريفية، البيئة، الموارد الطبيعية، التعليم، الصحة، والطاقة؛
ممثلين عن المجالس المحلية المنتخبة؛
ممثلين عن الجامعات الوطنية، ومراكز الدراسات المعتمدة؛
ممثل عن القطاع الخاص الوطني غير المرتبط بالمضاربات أو الاقتصاد السياسي القديم؛
ممثلين عن المجتمع المدني التنموي؛
عضوين مراقبين من البرلمان والمجلس التنفيذي.
- المهام الداخلية:
إعداد “الخطـة الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة” (Syria Vision 2045)؛
إصدار تقارير تقييم سنوية لأداء الوزارات التنموية والمحافظات؛
إنشاء قاعدة بيانات تنموية وطنية مفتوحة؛
تنظيم ملتقى سنوي للتخطيط التنموي المفتوح؛
توجيه الإنفاق العام نحو الأولويات الوطنية الفعلية.
ثالثًا: المبادئ الحاكمة لعمل المجلس
التنمية الشاملة لا القطاعية: لا يجوز حصر التنمية في قطاعات دون غيرها (مثلاً: إعمار العمران دون إصلاح التعليم أو الصحة).
العدالة الإقليمية: ضمان وصول التنمية إلى المناطق المهمشة، وتوزيع الموارد وفق الحاجة لا وفق النفوذ.
التخطيط بالمشاركة: إشراك المجتمعات المحلية، النقابات، والخبراء المستقلين في رسم الأولويات.
التنمية القائمة على الحقوق: يُربط كل مشروع تنموي بأثره على تحسين الحق في التعليم، السكن، الصحة، البيئة، العمل، إلخ.
الشفافية والمساءلة: تُنشر كل خطط المجلس، وتخضع للرقابة البرلمانية والرقابة المدنية.
رابعًا: أدوات المجلس التنفيذية
مركز الدراسات الاستراتيجية الوطنية: ذراع بحثي للمجلس، يُنجز الدراسات ويدير المعلومات؛
المرصد الوطني للتنمية: يتولى مراقبة مؤشرات التنمية وتحليل الفجوات الإقليمية والقطاعية؛
وحدة التنسيق الوزاري: تربط المجلس بالوزارات التنفيذية وتضمن مواءمة السياسات القطاعية مع الرؤية العامة؛
نظام الإنذار التنموي المبكر: يُراقب المشروعات المتعثرة أو الفاشلة أو الفاسدة، ويُوصي بالتصحيح أو التجميد.
خامسًا: خطة التأسيس والتفعيل
إصدار مرسوم تأسيسي خلال أول 90 يومًا من الحكومة الانتقالية يُقرّ فيه المجلس دستوريًا ويُحدَّد فيه تشكيله ومهامه وصلاحياته.
تشكيل لجنة خبراء مستقلة لوضع الهيكل الإداري وخطة العمل للسنوات الخمس الأولى.
إطلاق أول خطة وطنية قصيرة الأجل (3 سنوات) باسم “استعادة الوظيفة التنموية للدولة”؛
نشر قاعدة البيانات التنموية الوطنية خلال 6 أشهر، وربطها بكل الوزارات والمحافظات والمجالس المحلية؛
إصدار أول تقرير سنوي عن التفاوت التنموي في سوريا، كمقياس موضوعي لتوجيه الإنفاق والإصلاحات.
خاتمة الفصل:
المجلس الأعلى للتنمية الوطنية ليس هيئة تخطيط تقليدية، بل عقل الدولة السيادي في مرحلة إعادة البناء،
وهو الذي يضبط إيقاع النهوض، ويمنع ضياع الجهد والموارد، ويوجه الدولة نحو تنمية عادلة، شاملة، مستدامة.
وبتأسيس هذا المجلس، نضع الأساس الحقيقي للخروج من منطق الإنقاذ إلى منطق الاستثمار في المستقبل.