القسم التاسع – الباب الثاني
الفصل السادس إدارة التنوّع وضمان التعدّد ضمن الدولة الواحدة
من الإنكار والتمييز إلى الحماية والتكامل
مقدمة تأسيسية: الدولة الواحدة لا تُبنى على التماثل، بل على عقدٍ يعترف بالتنوّع
لا وجود لوطن حقيقي دون اعتراف بتعدّد ناسه، ولا يمكن لدولة أن تبقى موحّدة إن لم تكن عادلة تجاه اختلافاتها.
فالوحدة الحقيقية ليست نفيًا للاختلاف، بل احتواءً سياديًا له داخل عقد جامع، يجعل من التنوّع مصدرًا للقوة، لا مدخلًا للانقسام.
في السياق السوري، لم يكن التعدّد مشكلة بذاته، بل تحوّل إلى مشكلة حين فُهِمَ كتهديد، وتمّت إدارته من منطق الإنكار، أو القمع، أو التوظيف السياسي، لا من منطق الاعتراف والتنظيم والاحترام المتبادل.
لقد تشكّلت سوريا كبلد غني بالقوميات، والطوائف، والثقافات، واللهجات، والأنماط الحياتية، لكن النظام البعثي لم يعترف بهذا الغنى، بل حاول صهر الجميع في هوية مفروضة، قائمة على تصور ضيق للعروبة، وعلى مركزية طائفية في السلطة، وعلى استثمارٍ انتهازي للهويات عند الحاجة، ثم قمعها بعد انتهائها وظيفيًا.
ومن هنا، فإن مشروع النهضة لا يمكن أن يستقيم ما لم يُعد تعريف الدولة السورية كـ”وطن متعدد”، لا على الورق فقط، بل في السياسات، والهياكل، والقوانين، والذاكرة، والخطاب، والمناهج، والتمثيل.
أولًا: تفكيك إشكالية إدارة التنوّع في التجربة السورية
- التعدّد كمشكلة أمنية
في النظام السابق، كان التنوع يُنظر إليه بوصفه خللًا يجب احتواؤه، لا ظاهرة يجب احترامها.
فالمكوّن الكردي كان يُعامل كقضية أمنية، والمسيحي كأداة ديكور سياسي، والدرزي كملف استرضاء، والسني كخطر محتمل، والعلوي كخزان دعم للنظام، بدل أن يكون لكل هؤلاء صفة واحدة: مواطن سوري كامل الحقوق.
- الإنكار كسياسة رسمية
تم إنكار وجود القوميات غير العربية، ومحو لغاتها من الفضاء العام، وحرمان أبنائها من التعليم بلغتهم، أو حتى من التسجيل في سجلات الدولة (كما حصل مع “المكتومين” من الأكراد).
وتم التعامل مع الطوائف والمذاهب باعتبارها غير موجودة في النص، لكنها حاضرة بقوة في توزيع السلطة والثروة والامتيازات.
- التوظيف الطائفي في بنية السلطة
لم يُلغِ النظام السوري الطائفية، بل أسّس نظامًا قائمًا على مزيج من القمع والتمييز:
– يُنكر الطائفية في خطابه،
– يُكرّسها في الأمن والجيش،
– يستخدمها لحماية نفسه،
– ثم يتّهم الشعب بالانقسام.
وهكذا، كان النظام يخلق الانقسام ويستثمره، ثم يدّعي أنه وحده القادر على منع الفوضى التي صنعها بيديه.
- غياب السياسات الثقافية الجامعة
لم تُنتَج سردية وطنية جامعة، ولا مشروع ثقافي يرى في التعدد ثروة.
بل غابت قصص المكونات المختلفة عن المناهج، واحتُكر الإعلام الرسمي لرواية واحدة، وتحوّلت الهوية الوطنية إلى هوية فارغة من الواقع، لا تعبّر إلا عن رؤية السلطة لنفسها.
ثانيًا: الرؤية السيادية لمشروع النهضة في إدارة التعدد
- التعدّد مكوّن بنيوي في الدولة، لا تهديد لها
يرى مشروع النهضة أن التعدد السوري ليس صدفة تاريخية، ولا عقبة سياسية، بل هو عنصر تأسيسي للهوية الوطنية الجامعة.
والاعتراف به ليس مِنّة من الدولة، بل واجب سيادي يحمي وحدة الكيان لا يُضعفها.
- عقد وطني تعددي لا مركزي
لا تقوم الدولة على نموذج “الهوية القسرية”، بل على عقد وطني يعترف بأن السوريين متعددو الهويات الجزئية (قومية، دينية، ثقافية)، لكنهم شركاء في السيادة، والقانون، والمصير السياسي.
وأن هذا التعدد لا يحتاج إلى فدرلة أو تفكيك، بل إلى نظام إداري–سياسي متوازن، يُمكّن الجميع من الحضور دون الحاجة للانفصال.
- التمثيل لا التجميل
لا يُكتفى بإدماج المكونات في الصورة الرمزية (مثل وجود وزير من أقلية)، بل يجب أن يُبنى النظام السياسي على آليات تضمن التمثيل الفعلي، لا الرمزي، ضمن آليات الانتخاب، والإدارة، وصياغة السياسات.
- السيادة لا تتجزأ – التعدّد داخل الوحدة
يجب الفصل الصارم بين الاعتراف بالهوية الثقافية، وبين تفكيك السيادة السياسية.
سوريا، في مشروع النهضة، دولة واحدة ذات سيادة موحّدة، لكن داخلها يُعترف بحق كل جماعة في ممارسة ثقافتها، ولغتها، وطقوسها، وتاريخها، دون انتقاص.
ثالثًا: السياسات التنفيذية المقترحة لضمان التعدد داخل الدولة الواحدة
- إقرار “الميثاق الوطني للتعدد الثقافي والاعتراف المتبادل“
يُبنى كوثيقة تأسيسية تضمن الاعتراف الرسمي بالمكوّنات القومية والثقافية والدينية.
يُربط بالدستور، ويكون ملزمًا في كل مؤسسات الدولة، ويُترجم إلى سياسات عملية.
- إصلاح المناهج التربوية لبناء ذاكرة وطنية جامعة
تضمين تاريخ كل المكونات السورية في الكتب المدرسية.
اعتماد مبدأ “الاعتراف المتبادل” في سرديات الهوية.
تدريس مبادئ التعدد والتسامح بوصفها من أسس المواطنة.
- تنظيم استخدام اللغات المحلية في الفضاء العام
الاعتراف الرسمي بالحق في التعليم باللغات الأم ضمن المناطق التي يشكّل أهلها غالبية ثقافية.
السماح باستخدام هذه اللغات في الإعلام المحلي، والبلديات، والفعاليات الثقافية.
حماية اللغات السورية المهددة بالاندثار من خلال مؤسسات ترعاها.
- تطوير نظام التمثيل السياسي والإداري
اعتماد نظام انتخابي يضمن تمثيل الأقليات دون تمييز إيجابي يُحوّلها إلى “حصص”، بل من خلال آليات تشاركية ومناطقية متوازنة.
تمكين المجالس المحلية في مناطق التنوّع من اتخاذ قراراتها الثقافية والخدمية بشكل لا مركزي، ضمن السيادة الواحدة للدولة.
- تأسيس “الهيئة العليا للتنوع الوطني“
تضم مثقفين، قانونيين، وقيادات مجتمعية من مختلف المكونات.
تُعنى بمراقبة السياسات الحكومية ومدى احترامها للتعدد، وتقديم تقارير سنوية تُنشر علنًا.
تتدخل في حالات التمييز الثقافي أو التوظيف السياسي للهويات.
خاتمة
لا تقوم وحدة سوريا على تطابق السوريين، بل على إرادتهم الحرة في العيش معًا باحترام وندية، رغم اختلاف أديانهم، وألسنتهم، وتجاربهم.
والمواطنة لا تُقاس بمدى قربك من “الهوية الرسمية”، بل بمدى شراكتك في السيادة، والمساواة أمام القانون، والمشاركة في القرار.
وفي الدولة الجديدة، لن يُطلب من الكردي أن ينسى لغته، ولا من المسيحي أن يخفي تقاليده، ولا من الدرزي أن ينكفئ على جبل، ولا من السني أن يدفع ثمن طائفيته المفترضة، ولا من العلوي أن يُحاسب على خيار النظام الذي صادر طائفته.
بل سيُعاد تعريف الدولة السورية كفضاء مشترك، لا يُلغى فيه أحد، ولا يُهيمن فيه أحد، بل تُصان فيه الكرامة بوصفها القاسم المشترك الوحيد.