web analytics
القسم التاسع – الباب الثاني

الفصل السابع سياسات إعادة الاعتبار للضحايا

من الاعتراف إلى الإدماج

مقدمة تأسيسية: حين تصبح العدالة أساس المواطنة، لا تعويضًا عنها

لا يمكن لأي مشروع نهضة أن يُبنى على أنقاض بشرٍ مهدورين، أو على ذاكرة جُعلت عارًا يُراد نسيانه.

فالضحايا ليسوا مجرد أفراد عانوا من الظلم، بل كتل من المعنى السياسي والأخلاقي والتاريخي، تسكن ضمير المجتمع، وتكشف حقيقة النظام الذي جرى تجاوزه.

وفي سوريا، لم تُنكر السلطة السابقة فقط مسؤوليتها عن الجرائم، بل أنكرت وجود الضحايا أنفسهم.
لم تكن المجازر مجرد حوادث معزولة، بل بنية حكم.

ولم يكن القتل والتعذيب والتشريد والتمييز الطائفي والتجريف السياسي والاستباحة الأمنية، مجرد تجاوزات، بل أدوات إدارة السلطة.

لذلك، فإن مشروع النهضة لا يرى في الحديث عن الضحايا ملفًا فرعيًا، ولا تحديًا إنسانيًا فقط، بل مسألة سيادية جوهرية:
– لأن الدولة الجديدة تُبنى على الاعتراف لا على الإنكار،
– ولأن الكرامة لا تُستعاد دون إصغاء،
– ولأن من دون معالجة جذرية لهذه الجراح، ستبقى الدولة هشّة، والمجتمع غاضبًا، والعقد ناقصًا.

أولًا: من التغييب إلى التسييس – كيف تم التعامل مع الضحايا في سوريا؟

  1. التغييب الرسمي: “لا ضحايا في حضرة الدولة

لم يعترف النظام بضحاياه أبدًا.
لم تُفتح أي تحقيقات مستقلة، ولم تُقدّم أي أسماء، ولم تُقام أي مراسم، ولم تُنشَر أي روايات.
بل كانت كل محاولة للحديث عن الضحايا تُواجَه بالاتهام بالعمالة، وتُقمع تحت شعار “الدولة تعرف من هو العدو”.

  1. التمييز بين الضحايا

كان هناك تصنيف صارم:
– من مات في صفوف النظام شهيد،
– ومن مات تحت التعذيب في سجونه إرهابي،
– ومن قُتل بغارات التحالف “خسارة عرضية”،
– ومن مات تحت القصف الروسي “تم تضليله”،
– ومن جاع حتى الموت “تم استغلاله من المعارضة”.

وبذلك، لم يتم فقط نفي الضحية، بل تحويلها إلى خصم، أو رقم، أو تهديد.

  1. التسييس المجتمعي للضحايا

في المقابل، استخدمت بعض القوى الثورية والجهوية والفئوية ملف الضحايا أداةً للتجييش أو الكراهية أو التوظيف السياسي، ما أضعف القضية الأصلية، وبدّد المعنى الأخلاقي لصوتهم.

ثانيًا: كيف يعيد مشروع النهضة الاعتبار للضحايا؟

  1. من “التعاطف” إلى “الحق

لا يُعامل الضحايا بوصفهم عبئًا على الدولة، ولا مجرد أصحاب مآسٍ، بل بوصفهم مواطنين أُهدرت حقوقهم، ويجب ردها بالكامل.

فهم لا يحتاجون إلى شفقة، بل إلى اعتراف، وتعويض، وإدماج، ومشاركة في القرار العام.

  1. من “الشهادة الرسمية” إلى “الذاكرة الجماعية

الضحايا لا يحتاجون إلى اعترافٍ إداري، بل إلى مكان داخل السردية الوطنية الجديدة.

سوريا القادمة لا تُبنى بنسيانهم، بل بجعلهم حاضرًا حيًّا في الوعي الجمعي، والدستور، والمؤسسات، والتعليم، والإعلام.

  1. من “الملف الإنساني” إلى “الركيزة السيادية

ملف الضحايا لا يُفصَل عن السيادة.
لأن الدولة التي لا تحمي ناسها، ولا تعترف بجراحهم، لا تملك شرعية تمثيلهم.
ولهذا، فإن الاعتراف بالضحايا شرط لتأسيس دولة تُعبّر عن مجتمعها، لا تنكره.

ثالثًا: السياسات التنفيذية لإعادة الاعتبار والدمج

  1. إنشاء “الهيئة الوطنية لإنصاف الضحايا

مستقلة عن الحكومة، وذات صلاحيات تشريعية–تنفيذية محددة.

تضم ضحايا، وخبراء قانون، وحقوقيين، وممثلين عن المجتمعات المحلية.

مهمتها: جمع الشهادات، توثيق الجرائم، اقتراح التعويضات، ومراقبة أداء الدولة في تنفيذ واجباتها تجاه الضحايا.

  1. سنّ قانون “إنصاف الضحايا وإعادة الإدماج

يعترف قانونيًا بكل من تعرّض لانتهاك جسيم في عهد النظام أو الميليشيات.

يقرّ بحقوق:

التعويض المالي والمعنوي

الأولوية في فرص العمل

التغطية الصحية المجانية

الدعم النفسي والاجتماعي

الحماية القانونية من التمييز والوصمة

يشمل القانون المعتقلين، أهالي المفقودين، من فقدوا منازلهم، من تعرضوا للعنف الجنسي، وضحايا القصف أو التجويع أو التهجير.

  1. بناء سجل وطني موحد للضحايا

قاعدة بيانات رسمية، حيادية، مفتوحة للتحديث، وشفافة أمام المجتمع.

تُوثق فيها كل حالات الانتهاك، أسماء الضحايا، نوع الانتهاك، المنطقة، والجهة المسؤولة.

يُستخدم هذا السجل كأساس في السياسات والموازنات وخطط التعويض.

  1. إنشاء متحف وطني لذاكرة الضحايا

مؤسسة سيادية تُعنى بتوثيق وتقديم تاريخ الانتهاكات بطريقة تربوية وإنسانية.

يعمل المتحف على تحصين الأجيال القادمة من تكرار المأساة، ويُجسّد مبدأ: “كي لا ننسى”.

  1. ضمان التمثيل السياسي–المجتمعي للضحايا

تمثيل مباشر للضحايا في المجلس الوطني، أو في اللجان الدستورية، أو في الهيئات الانتقالية.

منحهم صوتًا في صياغة السياسات، لا كفئة “ضعيفة”، بل كقوة أخلاقية وسياسية مؤسسة.

خاتمة الفصل

في الدولة الجديدة، لا تُبنى السيادة على القمع والنسيان، بل على الاعتراف والكرامة.
والضحايا ليسوا بقايا حرب، بل شهود دولة.

لا نُكرّمهم بالخطابات، بل بإدماجهم في المؤسسات، وضمان حقوقهم، وجعل جراحهم جزءًا من سردية وطنية تؤسس لعدم التكرار.

وكل دولة لا تضع الضحايا في قلب مشروعها، ستجد نفسها في النهاية ضحية لخيبة الثقة، وانفجار الصمت، وتحوّل الجرح إلى لعنة.

أما نحن، فنبني مشروعًا يستمد شرعيته من الضحايا، لا من فوقهم، ويعيدهم إلى الصدارة، بوصفهم مَن يملكون اليوم الشرعية الأخلاقية لبناء الدولة السورية من جديد.