القسم التاسع – الباب الثاني
الفصل الثامن اللاجئون والمغتربون
من التهميش إلى الاستعادة الوطنية
مقدمة تأسيسية: من فقد المكان إلى إعادة امتلاك المصير
حين يُجبر الإنسان على مغادرة وطنه، لا يفقد منزله فقط، بل يفقد أيضًا ما تبقّى له من دور، وصوت، وشعور بالانتماء إلى الدولة التي كان يُفترض أن تحميه.
وحين يتحوّل المنفى من حالة مؤقتة إلى قدر دائم، يصبح اللاجئ شيئًا معلّقًا بين هوية منفية، ودولة لا تعترف به، وعالم لا يمنحه أكثر من صفة “عبء”.
وفي الحالة السورية، لم يكن اللجوء مجرد نتيجة للحرب، بل نتيجة لسياسات ممنهجة من الإقصاء، والعنف، والتمييز، والتجريف الأمني والطائفي.
ولم يكن الاغتراب مجرد هجرة بحثًا عن فرص، بل أيضًا تعبيرًا عن فقدان الأمل، وتراكم القطيعة بين الفرد والدولة.
لقد تعاملت الدولة القديمة مع اللاجئين بوصفهم خونة محتملين أو عارًا وطنيًا أو تهديدًا ديموغرافيًا أو ورقة تفاوضية، لا كمواطنين انتُزعت كرامتهم ويجب استردادهم.
وتعاملت مع المغتربين بوصفهم “مصدر حوالات مالية” أو مجرد أدوات دعائية في المناسبات الرسمية.
في مشروع النهضة، تُعاد صياغة العلاقة بين الدولة واللاجئ، بين الوطن ومن في المنافي، على قاعدة السيادة والكرامة، لا الصدقة والتخوين.
فاللاجئون ليسوا غرباء عن الوطن، بل الوطن نفسه في شكله المشرّد، والمغتربون ليسوا زوارًا موسميين، بل شركاء في القرار، ومساهمون في البناء، وقوة استراتيجية غُيّبت طويلًا.
أولًا: تشريح السياسة السورية تجاه اللاجئين والمغتربين
- التجريم السياسي للاجئين
منذ بدايات الثورة، تم تصوير كل لاجئ على أنه “هارب” أو “عميل”، وتحوّلت المخيمات إلى مستودعات بشرية تُستخدم في الخطاب الإعلامي كدليل على المؤامرة لا على المأساة.
ولم تُقدَّم أي رؤية وطنية لحلّ هذه المعضلة، سوى العودة القسرية أو الإذلال السياسي.
- الإقصاء القانوني والإداري
– صودرت أملاك مئات آلاف اللاجئين تحت قوانين مثل “القانون 10”.
– مُنعوا من العودة دون “موافقة أمنية”.
– أُقصوا من الانتخابات والاستحقاقات الوطنية.
– لم تُوفَّر لهم حماية دبلوماسية حقيقية في الخارج.
- الإهمال الرمزي والاقتصادي للمغتربين
رغم وجود ملايين السوريين في المغتربات، لم تكن هناك مؤسسات سيادية حقيقية تربطهم بالوطن، ولم تُمنَح لهم فرص المشاركة، أو الاستثمار، أو التمثيل، إلا عبر وسطاء أمنيين أو سياسيين.
ثانيًا: الرؤية السيادية الجديدة – من اللاجئ بوصفه عبئًا إلى اللاجئ بوصفه شريكًا في البناء
- العودة ليست مسألة إغاثية، بل خيار سياسي سيادي
اللاجئ لا يعود فقط إلى منزل، بل يعود إلى دولة جديدة تضمن له الكرامة، والعدالة، والاعتراف، والحماية.
العودة يجب أن تكون:
– طوعية،
– آمنة،
– مدروسة،
– ومؤسساتية،
ولا يمكن فرضها دون معالجة الأسباب البنيوية التي دفعت إلى الهروب أصلًا.
2.المغترب ليس غائبًا بل فاعل سياسي–اقتصادي
يُعاد تعريف السوري المغترب كجزء من الجسد السيادي للدولة، لا كعنصر خارجي.
– له حق التصويت،
– وحق التمثيل السياسي،
– وحق المساهمة في إعادة الإعمار،
– وحق التشارك في صنع السياسات المتعلقة بسوريا، أينما كان.
- السيادة تبدأ من لمّ شمل السوريين أينما كانوا
لا تكتمل السيادة على الأرض قبل استعادة السيادة على الناس.
وسوريا لا تُبنى بمن بقي فقط، بل بمن انتُزع منها قسرًا، وبمن غادرها خوفًا أو اضطرارًا، فهؤلاء هم الجزء المكمل للوطن.
ثالثًا: السياسات التنفيذية للاستعادة الوطنية
- إنشاء “المجلس الوطني السوري لشؤون العودة والمغتربين“
هيئة سيادية مستقلة ترتبط بالسلطة التشريعية.
تضم ممثلين عن اللاجئين، المغتربين، المجتمع المدني، الخبراء.
وظيفتها وضع سياسات وطنية للعودة، والإدماج، والاستثمار، والتمثيل السياسي.
- إصدار قانون “العودة الآمنة والكرامة الكاملة“
يكفل لكل لاجئ سوري حق العودة دون ملاحقة أمنية أو قيد سياسي.
يضمن استعادة ممتلكاته، أو تعويضه العادل في حال تعذر ذلك.
يُقرّ بحق التعويض المادي والمعنوي عن انتهاكات اللجوء، أو الاستهداف السياسي، أو فقدان الوثائق، أو التمييز.
يُمنح العائد الأولوية في فرص العمل، والتعليم، والدعم القانوني.
- تعديل الدستور ليشمل تمثيلًا فعليًا للمغتربين
دوائر انتخابية خاصة للمغتربين حول العالم.
مشاركة مباشرة في البرلمان والمجالس الوطنية.
إمكانية تولي المناصب السيادية لمن يحمل الجنسية السورية ويقيم في الخارج.
- تفعيل أدوات السيادة في القنصليات والسفارات
تحويل السفارات إلى أدوات لخدمة المغتربين، لا لمراقبتهم أو ابتزازهم.
فصل الملف القنصلي عن الأجهزة الأمنية.
تطوير منصة إلكترونية وطنية تُتيح تسجيل المغتربين، ومتابعة قضاياهم، وربطهم بالمؤسسات الوطنية الجديدة.
- إطلاق “صندوق السيادة الوطنية للمغتربين“
يُمكّن السوريين في الخارج من الاستثمار في مشاريع استراتيجية داخل سوريا بشروط عادلة وآمنة.
يُدار بشفافية كاملة تحت رقابة برلمانية–شعبية.
يُستخدم لدعم مشاريع التنمية، إعادة الإعمار، وتمويل المبادرات الثقافية والتعليمية والصحية.
خاتمة الفصل
إن الدولة التي لا تستعيد أبناءها، لا تستعيد سيادتها.
والدولة التي تُقصي من نفاهم الظلم، ستظل ناقصة السيادة، ومشوّهة التمثيل، وعاجزة عن فهم نفسها.
فاللاجئون ليسوا صدى للمأساة، بل قلب السيادة الوطنية المبعثرة، والمغتربون ليسوا على الهامش، بل في مركز الفرصة التاريخية لبناء سوريا الجديدة.
ومن الشتات نبدأ لمّ الشمل،
ومن المنفى نكتب العودة،
ومن الخسارة نؤسس الفكرة،
ومن الاستبعاد نصوغ دولة لا تُقصي أحدًا، ولا تنسى أبناءها، ولا تكتفي بما تبقّى.