web analytics
القسم التاسع – الباب الثالث

الفصل الثاني عشر الاستثمار الوطني

من الاستغلال الخارجي إلى الشراكة السيادية

مقدمة تأسيسية: حين يكون المال وسيلة للتحرر لا للهيمنة

في الدول الخارجة من الاستبداد والصراع، لا يكون الاستثمار مجرد أداة للنمو، بل كثيرًا ما يتحوّل إلى بوابة لإعادة تدوير شبكات النفوذ القديمة، أو إلى أداة سيطرة أجنبية تحت غطاء التنمية.

وتصبح البلاد سوقًا مفتوحة للنهب، حيث يُباع القرار مقابل القرض، والسيادة مقابل الصفقة، والاستقرار مقابل العائد السريع.

وفي التجربة السورية، لم يُستخدم الاستثمار يومًا لبناء قاعدة وطنية منتجة، بل لتثبيت بنية الريع، والزبائنية، والاحتكار، ولفتح المجال أمام مراكز المال القريب من السلطة.

أما المستثمر المستقل، فكان مهددًا إن لم يدخل في ولاءات، والمغترب الطامح بالمساهمة كان مستبعَدًا أو مشتبهًا به، والمجتمع المحلي لا يُستشار ولا يُمثَّل.

ثم جاءت الحرب، فجعلت سوريا بيئة طاردة للاستثمار الحقيقي، وبيئة جاذبة للاستغلال، حيث تحوّل الإعمار إلى فرصة للسيطرة، وتحولت الموارد إلى رهائن، وتحول الإنسان إلى أداة تفاوض.

من هنا، لا يمكن لمشروع النهضة أن يتعاطى مع الاستثمار كضرورة اقتصادية فحسب، بل يجب أن يُعاد تعريفه بوصفه ملفًا سياديًا من الدرجة الأولى، ومساحة لإعادة توزيع السلطة، وتحرير الثروة، وبناء الشراكة بين الدولة، المواطن، والمغترب، على أساس الشفافية والتكافؤ لا الامتياز والهيمنة.

أولًا: الاستثمار في سوريا – بين الاستثناء والارتهان

  1. قوانين صُمّمت للمحظيين

لم يكن قانون الاستثمار في سوريا أداة لتحقيق التنمية، بل أداة لضمان أرباح “أمراء السوق” المقرّبين من النظام.
– تُمنح الإعفاءات بشكل انتقائي،
– تُوزع الأراضي بلا مناقصة،
– يُحاصر أي مستثمر مستقل،
– وتُصمم الحوافز لحماية رأس المال السياسي لا للبحث عن جدوى اقتصادية.

  1. طرد الكفاءات والمغتربين

لم يكن المغترب السوري مرحبًا به إلا إذا كان ممولًا صامتًا،
يُطلب منه أن يُرسل أمواله، دون أن يُمنح ضمانًا، أو حماية، أو تمثيلًا.
وفي كثير من الحالات، كان يُنظر إليه كخطر، لا كشريك.

  1. الاستثمار كغطاء للنفوذ الأجنبي

مع انفتاح النظام على روسيا وإيران وغيرهما، تحوّل الاستثمار إلى وسيلة لمنح الامتيازات الاستراتيجية (في الموانئ، الاتصالات، الطاقة) لدول أجنبية، مقابل الدعم العسكري أو السياسي.

وهكذا، لم يكن الاستثمار رافعة للسيادة، بل أداة لتفكيكها بهدوء.

ثانيًا: ملامح رؤية مشروع النهضة في بناء الاستثمار السيادي

  1. الشراكة لا التبعية

الاستثمار، في الدولة الجديدة، لا يكون منطقُه “تسهيل الهيمنة”، بل “تمكين الشراكة”.
– لا امتيازات بلا مقابل وطني،
– لا دخول لقطاعات سيادية دون ضوابط صارمة،
– ولا تحالفات استراتيجية بلا مساءلة شعبية.

  1. المواطن شريك لا متلقٍّ

يُعاد تعريف المواطن بوصفه مشاركًا في العملية الاستثمارية، سواء عبر الجمعيات، أو التعاونيات، أو صناديق التنمية المحلية، أو التمثيل في المجالس الاقتصادية.

  1. اللامركزية في تخطيط الاستثمار

لا مركزية الاستثمار تعني أن البلديات والمجالس المحلية قادرة على اقتراح المشاريع، واجتذاب المستثمرين، وتحديد أولوياتها التنموية، لا أن تُفرض عليها مشاريع لا حاجة لها.

  1. المغتربون قوة استثمارية استراتيجية

لا يمكن لسوريا أن تُنهض اقتصادها دون استثمار الكفاءات السورية في الخارج، عبر:
– أدوات تمويل آمنة،
– تمثيل مباشر في المؤسسات الاقتصادية،
– مشاريع مخصصة للمغتربين،
– ضمانات قانونية–قضائية حقيقية.

ثالثًا: السياسات التنفيذية لبناء بيئة استثمار سيادي وعادل

  1. إنشاء “الهيئة الوطنية العليا للاستثمار السيادي

هيئة مستقلة تخضع لرقابة المجلس الوطني

تضم ممثلين عن:

المغتربين،

المجالس المحلية،

الغرف التجارية،

النقابات،

والمجتمع المدني

وظيفتها:

صياغة السياسات الاستثمارية

مراجعة العقود الكبرى

التصديق على الشراكات الدولية

تقييم الأثر التنموي والاجتماعي لكل مشروع

  1. إصدار “قانون الشفافية والعدالة في الاستثمار

يُمنع فيه أي استثمار مرتبط بجهات أو أفراد تورطوا في الفساد أو الانتهاكات

تُلزم فيه الدولة بنشر كل الاتفاقيات والعقود علنًا

يُقر مبدأ التمييز الإيجابي لصالح المشاريع المحلية، والتعاونية، والمجتمعية

يُحدد فيه سقف الامتيازات ويُربط بتحقيق الأثر الإنتاجي والتنموي الفعلي

  1. إطلاق “برنامج الاستثمار المجتمعي التشاركي

مشاريع صغيرة–متوسطة بالشراكة بين الدولة، المجتمع المحلي، والمغتربين

تُدار عبر المجالس المحلية وتُموّل من صندوق وطني

تستهدف القطاعات الحيوية: الزراعة، الحِرف، الصناعات الغذائية، السياحة البيئية، الخدمات التعليمية والصحية

  1. حماية القطاعات الاستراتيجية

يُمنع الاستثمار الأجنبي المباشر في قطاعات: الطاقة، المياه، الاتصالات، الدفاع، الأمن الغذائي

يُسمح بالشراكات التقنية دون نقل الملكية أو الإدارة

يُراقب أي اختراق للسيادة الاقتصادية وتُحاسب الجهات المسؤولة عنه

  1. ربط الاستثمار بالتنمية البشرية

يُشترط في أي مشروع استثماري تشغيل نسبة محددة من السكان المحليين

يُخصص جزء من الأرباح للتدريب المهني، والبنية الاجتماعية، والخدمات العامة

تُراقب العلاقة بين النمو الاقتصادي وتكافؤ الفرص

خاتمة الفصل

في سوريا الجديدة، لا نريد استثمارًا يدخل من بوابة الدولار ويخرج من بوابة السلطة.
بل نريد استثمارًا ينبت في الأرض، ويُشغّل الناس، ويحترم السيادة، ويُنتج المعرفة، ويُوزّع القيمة بعدل.

نريد أن يرى المستثمر في سوريا وطنًا لا سوقًا،
وأن يرى المواطن نفسه شريكًا لا مستهلكًا،
وأن يكون المال أداة للكرامة لا للاستغلال،
وأن تُبنى التنمية لا على استباحة البلاد، بل على تحرير اقتصادها من التبعية، ومن المحسوبية، ومن الريع.

فالاستثمار، كما نراه، ليس مجرد خيار اقتصادي، بل فعل سيادي مكتمل، ومعيار لصدق الدولة في تمثيل شعبها لا في تسويقه.