web analytics
القسم التاسع – الباب الرابع

الفصل الثالث عشر العدالة الاجتماعية

من التفاوت البنيوي إلى إعادة التوزيع العادل

مقدمة تأسيسية: من الإنصاف شعارًا إلى الإنصاف كمعمار للدولة

لا تقوم دولة سيادية بدون عدالة،
ولا تكتمل نهضة بدون إعادة توزيع،

ولا تُبنى ثقة بين الناس ومؤسساتهم إذا بقي التفاوت البنيوي يحكم فرص الحياة، والتعليم، والسكن، والعمل، والتمثيل، والمصير.

في سوريا، لم يكن غياب العدالة الاجتماعية مجرد خلل في التوزيع، بل أساسًا في هندسة الحكم.
تم بناء مجتمع من طبقتين:
– قِلّة تملك القرار، والمال، والحماية، والتأثير،
– وكثرة تُقيد بالحاجة، وتُقمع بالصمت، وتُدجّن بالحد الأدنى للبقاء.

توزّع الفقر بحسب المناطق والانتماءات،
وتعمّق التفاوت بين المدينة والريف، وبين المركز والأطراف،
وبين طبقات لها حق الوصول، وطبقات محكوم عليها بالتهميش المزدوج: اقتصاديًا وإنسانيًا.

ومع الحرب، انفجر هذا الخلل حتى أصبح مُهددًا لوجود الدولة كمفهوم، لا فقط كإدارة.
فتفاقم الجوع، وتوسعت الفجوات، وتحوّل الاقتصاد إلى أداة لبقاء سلطة لا إلى أداة بقاء مجتمع.

في مشروع النهضة، تُعاد صياغة مفهوم العدالة الاجتماعية من الجذر،
فلا تُختزل في سياسات دعم، ولا تُمنح عبر مساعدات،
بل تُبنى عبر تحويل بنية الدولة ذاتها إلى أداة إنصاف، وتمكين، وتحقيق تكافؤ حقيقي.

أولًا: تشريح التفاوت البنيوي في سوريا

  1. تهميش جغرافي ممنهج

لم تكن جميع المناطق تُعامل بالمثل.
دمشق والساحل امتلكتا الحصة الأكبر من المشاريع، والوظائف، والخدمات،

بينما حُرمت محافظات بكاملها (دير الزور، الحسكة، درعا، الرقة، إدلب، ريف حلب، ريف دمشق، السويداء) من أي استثمار تنموي حقيقي.

  1. انعدام العدالة الطبقية

طبقة صغيرة سيطرت على الثروات من خلال الامتيازات الأمنية–السياسية،
بينما اتسعت هوّة الفقر حتى وصلت إلى الطبقة الوسطى، ثم قضمتها،
وأُنتج “اقتصاد نجاة” يقوم على التهريب، والابتزاز، والمساعدات، لا على الكفاءة والعمل.

  1. ئسياسات دعم زائفة

تم استخدام الدعم كأداة تهدئة، لا كسياسة عدالة.
فالدولة كانت تتحكم بتوزيع الدعم لتكافئ أو تعاقب،
وتمت إزالة الدعم تدريجيًا بقرارات ارتجالية، دون نظام حماية حقيقي للضعفاء.

  1. غياب التمثيل السياسي للمهمشين

لم يكن للفقراء أو للمناطق المهمشة تمثيل حقيقي في القرار العام،
فمن لا يملك المال، ولا الواسطة، ولا الامتياز الطائفي أو الحزبي، كان خارج اللعبة تمامًا.

ثانيًا: ملامح العدالة الاجتماعية في مشروع النهضة

  1. العدالة لا تُمنَح بل تُبنى

العدالة ليست امتيازًا، ولا تفضّلًا من الدولة، بل حق أساسي تُلزم به الدولة ذاتها، وتُحاسب عليه عبر مؤسسات رقابية وقضائية مستقلة.

  1. التوزيع العادل للثروة والفرص

تُعاد هيكلة الدولة لتضمن توزيعًا متوازنًا لـ:
– الموارد الوطنية،
– الإنفاق العام،
– الخدمات الأساسية،
– الدعم،
– برامج التمكين،
– والبنية التحتية،
بحسب الاحتياج لا بحسب النفوذ.

  1. تمكين الفئات الأشد هشاشة

العدالة تبدأ حيث يكون الضعف أكبر:
– في الريف،
– في العشوائيات،
– بين النساء المعيلات،
– بين الشباب العاطلين،
– بين ذوي الإعاقة،
– وبين العائدين من اللجوء.

  1. اللامركزية بوصفها أداة عدالة

يُعاد توزيع السلطة التنفيذية لتتمكن المجالس المحلية من الاستجابة الفورية لاحتياجات سكانها،
ويُخصّص جزء من الموارد الوطنية للمناطق وفق نسب الفقر والحاجة لا وفق القوة السياسية.

ثالثًا: السياسات التنفيذية للعدالة الاجتماعية السيادية

  1. إصدار “قانون العدالة الاجتماعية والتوزيع المنهجي للثروة

ينص على إلزام الدولة بتقارير دورية حول توزيع الثروة والفرص.

يُلزم الموازنة العامة بإدراج مؤشرات الإنفاق العادل جغرافيًا وطبقيًا.

يُحدد معايير لتصنيف المناطق الأشد حرمانًا وإعطائها أولوية تنموية.

  1. إنشاء “هيئة العدالة الاجتماعية ومكافحة التفاوت

مستقلة، ذات صلاحيات تنفيذية ورقابية،

تعمل على:

مراقبة توزيع الخدمات،

مراجعة خطط الوزارات،

إطلاق برامج تمكين اقتصادي للفئات الهشة،

رصد الفجوات الهيكلية في الدخل والتعليم والسكن والصحة.

  1. تفعيل سياسة الدعم الذكي الموجّه

يُلغى الدعم العشوائي ويُستبدل بدعم مباشر للمواطن المحتاج عبر بيانات دقيقة.

تُربط المساعدات ببرامج التمكين لا بإعادة إنتاج التبعية.

يُخصص جزء من موازنة الدولة لتمويل دخل أساسي للفئات تحت خط الفقر.

  1. التمكين الاقتصادي للفئات الهشة

قروض صغيرة بلا فوائد للمشاريع الفردية في الريف والمناطق المتضررة.

دعم مشاريع النساء والمهنيين واللاجئين العائدين.

إعفاءات ضريبية للأنشطة الإنتاجية في المناطق المهمشة.

  1. تمثيل سياسي ومؤسساتي للفقراء والمهمشين

ضمان وجود ممثلين عن الفئات الضعيفة في المجالس المحلية والمجلس الوطني.

إطلاق مبادرات تشاورية مستمرة مع سكان الأحياء العشوائية والقرى المعزولة.

اعتماد مؤشرات “التمثيل المتوازن” كشرط في تقييم الأداء المؤسساتي.

خاتمة الفصل

في سوريا الجديدة، لا تُقاس العدالة بما تقوله الدولة عن نفسها، بل بما يشعر به أفقر مواطن في أقصى الريف، وهو يفتح عينيه في الصباح:

هل يرى فرصة؟ أم يرى جدارًا؟
هل يشعر أنه محسوب؟ أم مجرد رقم فائض؟
هل يعتقد أن مستقبله في هذه البلاد، أم أن البلاد لم تكن له يومًا؟

العدالة الاجتماعية، كما نؤسس لها، ليست سياسة رفاه،
ولا هي أداة تهدئة،
بل هي جوهر التأسيس السيادي لعلاقة جديدة بين الدولة والمجتمع،
حيث لا أحد يُولد مرفّهًا، ولا أحد يُولد مدفونًا تحت السقف المنخفض للتهميش البنيوي.

ومن الظلم الذي تنفّسناه عقودًا،
نبدأ كتابة هندسة عادلة لفرص الحياة، والكرامة، والانتماء.