القسم التاسع – الباب الخامس
الفصل الثاني والعشرون العدالة الجنائية وإصلاح المؤسسات العقابية
من الانتقام السلطوي إلى التقويم الإنساني
مقدمة تأسيسية:
في سوريا ما قبل النهضة، لم تكن العدالة الجنائية مؤسسةً مستقلة لضبط الجريمة وحماية المجتمع، بل كانت امتدادًا مباشرًا للسلطة السياسية، تُستخدم لترهيب الخصوم، وتعزيز الهيمنة، وتصفية الحسابات الأيديولوجية والطائفية. لم يكن الهدف من العقوبة هو إعادة تأهيل الإنسان، بل إذلاله ومحو شخصيته. وقد تراكمت في الوعي العام صورة السجن كأداة انتقام لا مؤسسة إصلاح.
أما في مشروع النهضة، فتنطلق العدالة الجنائية من مركزية الكرامة الإنسانية، وتُبنى على مبادئ المحاسبة النزيهة، وضمان المحاكمة العادلة، وتحويل المؤسسات العقابية إلى مساحات لإعادة التأهيل لا لعقاب وجودي. وهي تُعالج في آنٍ واحدٍ ذاكرة الانتهاكات الماضية، والحاجة لبناء منظومة جنائية عادلة وشفافة تحظى بثقة الناس.
أولًا: تفكيك بنية القمع في العدالة الجنائية القديمة
- خضوع السلطة القضائية للتوجيه الأمني.
- محاكم استثنائية تفتقر لأدنى شروط العدالة.
- انتزاع الاعترافات تحت التعذيب، وغياب الدفاع.
- اكتظاظ السجون وتحولها إلى بؤر عنف لا إصلاح.
- غياب أي رقابة مستقلة على مراكز الاحتجاز.
ثانيًا: المبادئ السيادية الجديدة في منظومة العدالة الجنائية
- ضمان استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية والأمنية.
- تعزيز مبدأ قرينة البراءة، والمحاكمة العلنية.
- حصر العقوبة بالضرورات المجتمعية، وإلغاء السجن كوسيلة للترهيب السياسي.
- تحويل السجون إلى مراكز لإعادة الاندماج المجتمعي.
- إرساء منظومة رقابة دائمة تشمل القضاة، والمحامين، والمجتمع المدني.
ثالثًا: السياسات التنفيذية
- الإلغاء الفوري للمحاكم الاستثنائية (محكمة الإرهاب، المحكمة الميدانية).
- مراجعة شاملة لجميع الأحكام الصادرة في عهد النظام السابق، وبخاصة ذات الطابع السياسي أو الطائفي.
- إصدار قانون جنائي جديد مستند إلى مبادئ العدالة الإنسانية، والتناسب، وعدم التمييز.
- إصلاح بنية السجون: – إغلاق جميع مراكز الاعتقال السري. – تحديث البنية التحتية، وتوفير شروط إنسانية. – تدريب الكوادر على التعامل النفسي والاجتماعي مع النزلاء. – إدماج برامج تعليمية وتأهيلية داخل المؤسسات العقابية.
- ضمان الحق في الدفاع: – تفعيل مبدأ “محامٍ لكل موقوف“. – تطوير نقابة الدفاع العام كمؤسسة مستقلة وممولة من الدولة. – منح منظمات المجتمع المدني الحق في مراقبة سير العدالة الجنائية.
- إنشاء المجلس الأعلى للإشراف الجنائي: – هيئة مستقلة غير تابعة لأي سلطة تنفيذية. – تمارس التحقيق في حالات التعذيب، الإهمال، أو التجاوز في السجون والمحاكم. – ترفع تقارير دورية تُنشر علنًا.
رابعًا: عدالة ما بعد الاستبداد – من الجريمة الفردية إلى الاعتراف المؤسساتي
- مراجعة الجرائم التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية بحق المواطنين منذ 2011.
- إدماج مسارات العدالة الانتقالية ضمن النظام الجنائي العام.
- ضمان تعويض المتضررين وإعادة الاعتبار المعنوي للضحايا.
- مساءلة المسؤولين عن التعذيب، والإعدامات، والاختفاء القسري، ضمن إطار قانوني واضح.
خاتمة الفصل
لا تُبنى الدولة العادلة بالانتقام، ولا تُستعاد الثقة بالقضاء بمجرد تبديل الشخوص. العدالة الجنائية في سوريا الجديدة هي اختبار حقيقي لصدق مشروع النهضة، لأنها تعكس موقف الدولة من الإنسان حين يكون في أضعف حالاته.
فإذا صلح القضاء، صلحت الدولة؛ وإذا احترمت السجون الكرامة، أمِنت البلاد. تلك هي السيادة العادلة، لا تلك التي تُملى بالعصا، بل التي تُبنى بالميزان.