web analytics
ملاحق مفاهيمية للقسم التاسع

الملحق الثاني مقارنة الفعل الجمعي

بين المجتمعات التقليدية والمجتمعات المدنية

مقدمة الملحق

حين نتحدث عن الفعل الجمعي،
فإننا لا نحلل مجرد ظاهرة سورية محلية،

بل نلامس آلية اجتماعية–نفسية عامة،
تحضر بأشكال مختلفة في كل المجتمعات البشرية.

لكن الفرق الجوهري يكمن في:
كيف تتعامل المجتمعات مع هذا الفعل؟
هل تكرّسه كآلية بدائية للوجود الاجتماعي،
أم تضبطه وتؤطره عبر مؤسسات القانون والمواطنة؟

هذا الملحق يقدم مقارنة تحليلية معمقة بين
الفعل الجمعي في المجتمعات التقليدية
والفعل الجماعي المنظّم في المجتمعات المدنية الحديثة،
بهدف استنباط الدروس اللازمة لإعادة بناء المجتمع السوري.

أولًا: الفعل الجمعي في المجتمعات التقليدية

في المجتمعات التقليدية، يقوم الفعل الجمعي على:

  • الهوية العضوية:
    حيث الولاء للعائلة، العشيرة، الطائفة، أو الإثنية، يتقدم على أي انتماء مدني أو قانوني.
  • الثأر الجماعي:
    حين يرتكب فرد من جماعة ما جرمًا، يصبح جميع أفراد جماعته مسؤولين عنه أمام الجماعات الأخرى.
  • التضامن القَبلي–الطائفي:
    بحيث تُعتبر نصرة الجماعة واجبًا مقدسًا، حتى لو كان الفعل الذي قامت به ظالمًا أو مجرمًا.
  • إنكار المسؤولية الفردية:
    فالفرد لا يُرى ككائن مستقل، بل كامتداد لجماعته: ذنبه ذنب جماعته، وبراءته براءة جماعته.
  • سيادة العرف فوق القانون:
    حيث تحل الأعراف الطائفية أو العشائرية محل التشريعات المدنية.

النتيجة:
في هذه البيئة، يتكرس منطق الصراعات الدائمة، وتُفقد فرص العدالة الفردية، وينهار مفهوم المواطنة المستقلة.

ثانيًا: الفعل الجمعي في المجتمعات المدنية الحديثة

على النقيض، المجتمعات المدنية الحديثة تؤطر الفعل الجماعي عبر:

  • تحرير الفرد من قسر الهوية:
    حيث يكون الانتماء للجماعات الثقافية أو الدينية اختيارًا حرًا لا قدَرًا مفروضًا.
  • مسؤولية فردية حصرية:
    لا يُحاسب إلا من ارتكب الفعل، ولا تمتد المسؤولية إلى الجماعة التي ينتمي إليها.
  • القانون فوق الأعراف:
    تسود قواعد قانونية مدنية عامة، تطبق على الجميع بالتساوي دون اعتبار للهويات الفرعية.
  • فصل العمل السياسي عن الهويات الأولية:
    يُسمح بتعدد الآراء والمشاريع، لكن يُمنع تأسيس أحزاب أو ميليشيات على أساس عرقي أو طائفي أو ديني.
  • حماية الحريات الفردية:
    تحمي الدولة حق كل فرد في التعبير، والانتماء، والتنقل، دون أن يُختزل في هويته الجماعية.

النتيجة:
تتحول الجماعات من كيانات قتالية أو تضامنية قسرية إلى فضاءات ثقافية حرة،
ويتحول الفرد إلى وحدة سياسية وقانونية مستقلة مسؤولة عن أفعاله لا عن انتماءاته.

ثالثًا: الفوارق الجوهرية بين السياقين

المجتمع التقليدي المجتمع المدني الحديث ميدان المقارنة
عضوية قسرية (دين، طائفة، عشيرة) اختيارية، سياسية–مدنية الهوية
جمعية تضامنية فردية قانونية المسؤولية
العرف والتقاليد القانون المدني أساس العدالة
الثأر أو الصلح العشائري القضاء والمحاكم المستقلة حل النزاعات
للجماعة الدينية أو العرقية أو القبلية للوطن والدستور الانتماء السياسي
تحددها الجماعة يحددها العقد الاجتماعي المدني الحقوق والواجبات
صراع وجودي دائم تعايش سلمي تعددي مصير الجماعات

 

رابعًا: الفعل الجمعي بين البناء والهدم

  • في المجتمع التقليدي:
    يؤدي الفعل الجمعي غالبًا إلى الاحتراب،
    لأنه قائم على الولاء الأعمى، وعلى رفض الآخر المختلف.
  • في المجتمع المدني:
    يمكن للفعل الجماعي أن يكون رافعة للتغيير الاجتماعي السلمي،
    حين ينظم الأفراد إرادتهم الحرة عبر مؤسسات مدنية ديمقراطية.

أي أن الفارق الأساسي لا يكمن في وجود الفعل الجماعي بحد ذاته،
بل في طبيعة العلاقات والمؤسسات التي تضبطه وتنظمه.

خامسًا: دروس للمشروع السوري النهضوي

انطلاقًا من هذه المقارنة، يتوجب على مشروع النهضة في سوريا أن يعمل على:

  • فكفكة الفعل الجمعي التقليدي:
    عبر تفكيك الهويات القسرية، وبناء بدائل مدنية حرة.
  • تعزيز مبدأ المسؤولية الفردية:
    بحيث لا يُحاسب أي إنسان إلا على أفعاله الشخصية لا على نسبه أو طائفته.
  • فرض سيادة القانون المدني:
    كسلطة عليا فوق العصبيات والعادات والأعراف القديمة.
  • تعزيز التربية المدنية:
    لتنشئة جيل جديد يفهم نفسه كمواطن حرّ لا كذرة مذابة في قطيع.
  • إعادة بناء المجال العام:
    ليكون ساحة لقاء حر بين أفراد متساوين، لا ميدان صراع بين جماعات طائفية أو عشائرية.

خاتمة الملحق

إن إحدى أعظم معارك النهضة السورية،
هي معركة الانتقال من مجتمع يحكمه الفعل الجمعي التقليدي،
إلى مجتمع يحكمه التعاقد المدني الحر.

وإن الانتصار في هذه المعركة لا يكون بالشعارات،
بل بتغيير عميق في الثقافة السياسية، وفي البنية القانونية،
وفي تصور الإنسان السوري لنفسه:
لا باعتباره “ابن جماعته”، بل باعتباره مواطنًا حرًا مسؤولًا،
قادرًا على الفعل، والمساءلة، والاختيار.

بهذا وحده،
تنتقل سوريا من مجتمع الغرائز الجمعية،
إلى وطن الأفراد الأحرار.