الجيش والأمن في مشروع النهضة
من أدوات السيطرة إلى حماة السيادة والدستور
مدخل فلسفي–سياسي:
في كل دولة تستند إلى الاستبداد، يتحوّل الجيش من حامي السيادة إلى حارس للسلطة،
وتنقلب أجهزة الأمن من ضمانة للأمان إلى أدوات للقمع،
ويُستبدل الولاء للوطن بالولاء للحاكم،
حتى تغدو البنادق موجّهة إلى صدور المواطنين، بدلًا من أن تحمي حدود البلاد.
وفي سوريا، كانت المعضلة أكبر:
فقد تأسست العلاقة بين الجيش والسلطة على خيانة فكرة الدولة ذاتها،
وعلى تسييس السلاح،
وتطييف القرار،
وخصخصة الأمن باسم حماية “الوطن” من شعبه.
ولهذا، فإن أي مشروع نهضوي لا يكتمل إلا بإعادة بناء العقيدة الأمنية والعسكرية،
على أساسٍ سيادي–دستوري–مدني،
يُعيد الجيش إلى موقعه الطبيعي كحامٍ للوطن لا كخصمٍ له،
ويحوّل الأمن من فزاعةٍ للناس… إلى مظلةٍ تحميهم.
أولًا: تشريح التجربة السورية – من جيش وطني إلى جيش سلطوي
منذ بداية تأسيس الدولة السورية الحديثة،
كان هناك حلم ببناء جيش وطني مستقل،
لكن هذا الحلم ما لبث أن تكسّر تحت ضربات الانقلابات العسكرية،
ثم أُجهز عليه نهائيًا مع صعود البعث وتحوّل الجيش إلى أداة للهيمنة.
- في عهد الأسد الأب، أُعيد تشكيل الجيش عقائديًا، ليكون “جيش الحزب والقائد”.
- تم تطييف القيادات، وتفكيك الهرمية الوطنية.
- أُنشئت شبكات أمنية داخل الجيش، تراقب الضباط لا تحمي البلاد.
- غاب العدو الحقيقي، وتم تصدير معركة دائمة مع الشعب نفسه.
- صودرت العقيدة العسكرية لتحمي النظام، لا لتحمي سوريا.
أما أجهزة الأمن، فتم تحويلها من أفرع حماية إلى دوائر رعب،
تستمد قوتها من قانون الطوارئ، لا من الدستور،
ومن تقارير المخبرين، لا من التحقيق الجنائي،
ومن امتيازات اللاشرعية، لا من هيبة القانون.
وهكذا، لم تعد هناك “مؤسسة أمنية–عسكرية”،
بل بنية سلطوية–قمعية ترتبط بشخص الحاكم،
وتخدم إعادة إنتاج سلطته، لا الدفاع عن الدولة.
ثانيًا: تفكيك العقلية الأمنية – من الولاء الشخصي إلى المأسسة السيادية
لكي نُعيد بناء المؤسسة العسكرية والأمنية، لا بد من تفكيك البنية العقلية التي حكمتها:
- العقيدة الأمنية لم تكن لحماية المواطن، بل لإخضاعه.
- التجنيد الإجباري تحوّل إلى أداة لإنتاج “جنود خائفين”، لا وطنيين.
- القادة العسكريون تم اختيارهم وفق الولاء لا الكفاءة.
- الأجهزة الأمنية عملت كأذرع فوق القانون، لا كجهات تطبّقه.
- السلاح استُخدم ضد الحرية، لا في الدفاع عنها.
في مشروع النهضة، نبدأ من تغيير هذه الفلسفة:
- الجيش لا يملك الدولة… بل الدولة هي من تمتلك الجيش.
- الأمن لا يعلو فوق المجتمع… بل يخدم أمنه وكرامته.
- البندقية ليست رمز الطاعة… بل أداة سيادة تُضبط بالقانون.
- الجنرال لا يُفكّر بديلًا عن الشعب… بل يُنفّذ إرادته حين يهدَّد الوطن.
ثالثًا: الجيش في الدولة النهضوية – من الحاكم إلى الحامي
في تصورنا للدولة السورية الجديدة،
يجب أن يُعاد تأسيس الجيش على قواعد جديدة:
- الجيش مؤسسة وطنية، لا حزبية، ولا طائفية، ولا عائلية.
- قيادته تُخضع للدستور، لا للولاء الفردي.
- تُفصل مهمته عن السياسة نهائيًا، ويُمنع من التدخّل في الشأن المدني.
- تُضبط ميزانيته برقابة برلمانية حقيقية.
- يُعاد هيكلته بما يضمن توازنًا جغرافيًا واجتماعيًا وتمثيليًا حقيقيًا.
- تُبنى عقيدته على حماية السيادة، لا قمع المجتمع.
بهذا، يعود الجيش ليكون درع الوطن، لا عصا السلطة.
رابعًا: الأمن في مشروع النهضة – من الخوف إلى الحماية
أما أجهزة الأمن، فلا يمكن أن تبقى “دولة داخل الدولة”،
ولا يمكن أن تستمر كوحشٍ له أذرع ولا عقل،
بل يجب أن تُعاد صياغتها بالكامل، وفق ما يلي:
- دمج الأجهزة في بنية وطنية موحدة تُخضع للمساءلة القضائية.
- إلغاء كل المكاتب الأمنية التي تتداخل مع الحياة المدنية.
- تحديد صلاحيات كل جهاز وضبطها بالقانون العام.
- حظر أي شكل من أشكال التعذيب، والإخفاء القسري، والمراقبة غير القانونية.
- تدريب الكوادر على ثقافة الخدمة المجتمعية، لا القمع.
- فتح المجال أمام رقابة مجتمعية وإعلامية على عمل الجهاز الأمني.
هدفنا ليس “أمن النظام”، بل أمن الإنسان.
خامسًا: إصلاح العقيدة – من ثقافة السلاح إلى ثقافة السيادة
في مشروع النهضة، السيادة لا تعني عسكرة الدولة،
ولا تعني خنق المجتمع بحجة “الخطر الدائم”،
بل تعني:
- امتلاك قرار الدفاع الوطني، لا تصديره إلى حلفاء.
- ردع الأعداء، لا ردع المجتمع.
- استخدام السلاح لحماية الحدود، لا لاحتلال المدن.
- ضبط الأمن عبر احترام القانون، لا اختراقه.
ولهذا، نحتاج إلى عقيدة جديدة:
- تدمج بين قوة الانضباط وروح القانون،
- تعيد تعريف الشجاعة باعتبارها خدمة لا تفوقًا،
- وتجعل من العسكري والأمني موظفًا سياديًا، لا وصيًا على الوطن.
الخاتمة:
السلاح لا يُنتج وطنًا… بل يحميه حين يُنتج
في النهضة السورية، لا مكان لجيش يخاف شعبه،
ولا لأمن يخنق الناس باسم الحفاظ عليهم،
ولا لعقيدة تُقدّس الطاعة وتُجرّم السؤال.
نحن لا نهدم المؤسسة العسكرية،
بل نُعيد تأسيسها على أساس وظيفي–سيادي–دستوري.
فالجيش الحقيقي يُقاتل من أجل شعبه،
لا يُهدده بالسلاح.
والأمن الحقيقي يُوفّر الأمان… لا يصنع الخوف.
ومتى استعدنا هذه المعاني،
استعدنا أحد أهم أركان الدولة النهضوية:
الحماية المنضبطة بالحق… والسلطة المقيدة بالدستور.