التقدمة الرابطة بين القسم الثاني والثالث
المحور الرابع النقد كمرتكز بنيوي لا ردّ فعل عابر
غالبًا ما يُستقبل النقد—وخاصة حين يكون جذريًا أو عالي النبرة—بوصفه انفعالًا شخصيًا، أو كراهية مموّهة للسلطة، أو تعبيرًا عن تموضع سياسي. ومع الوقت، تتكرّس ثقافة ترى في النقد تهديدًا، وتُقابل مساءلة الفعل بسؤال النوايا. وهكذا يُفرَّغ النقد من مضمونه، ويُعامل كحدث مؤقت بدلًا من أن يُعترف به كأداة تأسيس داخل الدولة والمجتمع.
لكن في مشروع النهضة، لا يُنظر إلى النقد كموقف معارض، بل كمكوّن جوهري يُبنى عليه التقدّم، ويُحافظ به على المعنى، وتُصان به القيم من التآكل البطيء.
- تفكيك أوهام الشخصنة
السلطة تميل بطبعها إلى اختزال النقد في الأشخاص: كل من ينتقدها “حاقد”، أو “ساعٍ للتهديم”، أو “مُغرِض”. لكن الرؤية الأخلاقية تتعامل مع النقد كبنية مفاهيمية، لا كمسألة شخصية. النقد الحقيقي لا يستهدف الأشخاص، بل أنماط الحكم، ومنطق السلطة، وأدوات الهيمنة التي تتخفّى تحت خطاب الإنجاز.
- النقد ضرورة لا ترف
في السياقات الاستبدادية، يُربّى الناس على الخوف من النقد، وعلى الخلط بين المساءلة والمعارضة. لكن غياب النقد لا يُنتج الاستقرار، بل يُراكم الانحراف. والمشروع الذي لا يُنقَّح باستمرار من الداخل، يتحوّل إلى تكرار مُقنّع لما سبق أن ثار عليه.
- الفرق بين الهدم والتأسيس
ليس كل نقد هدّامًا، كما أن ليس كل نقد تأسيسيًا. المهم هو منطلقه: هل يأتي من رغبة في كشف العطب لإعادة البناء؟ أم من مزاجية عبثية؟ الرؤية التي نقترحها تؤسس لنقد يُسائل لا ليهدم، بل ليصحّح، ويحرس المشروع من التكلّس أو الانجراف.
- تحويل النقد إلى ثقافة مجتمعية
لا يكفي أن يبقى النقد محصورًا بالنخب. يجب أن يتحول إلى ثقافة يمارسها المواطن، والموظف، والمعلم، والمسؤول. وهذا يتطلب تحرير العقل العام من تقديس السلطة، وإدماج التفكير النقدي ضمن التنشئة، والمناهج، والإعلام، والمساحات العامة.
خلاصة المحور:
لا يمكن لمشروع النهضة أن يُبنى دون وجود عين نقدية يقظة، ولسان يسائل، وعقل يراجع. فالنقد ليس موقفًا ضد الدولة، بل هو شكل من أشكال حماية الدولة من نفسها. والمجتمع الذي لا يُمارس النقد من داخله، يُعيد إنتاج القمع ولو غيّر وجوهه.