web analytics
التقدمة الرابطة بين القسم الثاني والثالث

المحور الخامس النضال الأخلاقي في وجه تسويات الضرورة

في سياقات ما بعد الكارثة، حين تخرج المجتمعات من الاستبداد مثقلة بالجراح والتشتت، ترتفع في الخطاب العام نغمة جديدة: “الضرورة السياسية”. ويُطلب من الناس أن يؤجلوا الكرامة، ويُعلّقوا العدالة، ويتراجعوا عن القيم، باسم الاستقرار أو درء الفوضى. وهكذا، تتحول الأخلاق إلى عبء، والمثالية إلى سذاجة، ويُعاد إنتاج منطق الهيمنة بلغة المرحلة لا بلغة الاستبداد.

هنا تبرز الحاجة إلى وعي نقدي يرفض أن تتحول السياسة إلى إدارة للأمر الواقع، ويعيد للمعيار الأخلاقي مكانته كأداة مراجعة وتحصين.

  1. تفكيك خطاب “المرحلة الانتقالية

غالبًا ما يُقال: “نحن في وضع حساس”، أو “الأولوية الآن للأمن”، أو “لا نربك المشهد بالمساءلة”. هذا الخطاب يجعل من الظرف درعًا لأي تجاوز، ومن الاستثناء قاعدة ممتدة. لكن الواقع لا يُحمى بإلغاء القيم، بل بإخضاعه لها. والاستقرار الذي يُبنى على السكوت، هو انهيار مؤجل.

  1. التسوية بلا معيار = انزلاق مقونن

نعم، الانتقال من الثورة إلى الدولة يتطلب تسويات، لكن لا يجوز أن تكون بلا معيار. حين تُقدَّم التنازلات كأمر واقع بلا حدود، يتحول المشروع إلى إعادة تدوير للمنظومة السابقة، لا تجاوز لها. التدرج مشروع، لكن فقط حين يحفظ الاتجاه ولا يطمس البوصلة.

  1. لا مصلحة عامة بلا محاسبة

من أكثر الخطابات شيوعًا في هذه السياقات: “النقد الآن يضعف الصف الوطني”، أو “لنمنع استغلال الخصوم”. بهذه الذرائع، تُكمم الأفواه من جديد، وتُتهم الأخلاق بالخيانة. لكن لا معنى لمصلحة عامة لا تحمي الإنسان، ولا جدوى من صفٍّ وطني بلا ضمير نقدي.

  1. القيم لا تُعلَّق عند الوصول للسلطة

أخطر ما يمكن أن يحدث بعد الثورات، هو تحوّل المناضلين إلى ساسة بلا ذاكرة. عند الوصول إلى الحكم، تُؤجَّل الشعارات، وتُستدعى لغة الضرورة، ويُعاد تدوير منطق القمع بلبوس جديد. وهنا يتحوّل الحُكم من غاية قيمية إلى مجرد أداة استمرارية، تُفرغ المشروع من معناه.

خلاصة المحور:

النضال لا ينتهي عند إسقاط الاستبداد، بل يبدأ من لحظة بناء البديل. والسلطة لا تُختبر فقط حين تكون في المعارضة، بل في اللحظة التي تُمسك فيها بمفاتيح القرار. لا شرعية لأي مشروع يسكت على الظلم تحت أي اسم. فالأخلاق لا تُجمَّد باسم الضرورة، بل يُعاد اختبارها في أشد لحظاتها.