القسم الحادي عشر – الباب الرابع
الفصل العشرون الانفتاح المتوازن على المحاور الدولية دون ارتهان
مقدمة تمهيدية
في النظام العالمي المعاصر، لم يعد ممكنًا لأي دولة، مهما بلغت قوتها أو استقلالها، أن تعيش في عزلة تامة.
لكن بين العزلة والارتهان، ثمّة مسافة من الفعل الذكي والموزون، حيث تمارس الدولة سيادتها وهي منفتحة، وتحمي قرارها وهي شريكة، وتبني تحالفاتها دون أن تتحوّل إلى تابع في محور، أو واجهة في صراع ليس صراعها.
وفي الحالة السورية، حيث عاشت الدولة عقودًا في فلك محاور متصادمة، وأُديرت السياسة الخارجية وفق اصطفافات عقائدية أو مصالح ضيقة، يصبح بناء انفتاح متوازن على المحاور الدولية من صميم المشروع السيادي النهضوي.
أولًا: النظام السابق ومحاور التبعية
منذ منتصف القرن العشرين، تموضع النظام السوري داخل محاور كبرى على مراحل:
أولًا في المعسكر الناصري–البعثي،
ثم في التحالف السوفيتي،
ثم في محور “الممانعة” المرتبط بإيران وحزب الله،
ومع اندلاع الثورة، في المحور الروسي–الإيراني معادٍ لأي تحوّل داخلي.
في كل تلك المراحل، لم يكن الانتماء للمحور ناتجًا عن مصالح وطنية خالصة، بل عن:
حاجة النظام إلى الحماية لا شراكة متوازنة،
سعيه للحصول على الغطاء الدولي مقابل التنازل عن القرار السيادي،
تبني خطاب عدائي شمولي يحرم الدولة من تعدد الخيارات،
توظيف السياسة الخارجية لأهداف داخلية تتصل بتكريس الاستبداد.
ثانيًا: مفهوم الانفتاح المتوازن في مشروع النهضة
الانفتاح في الرؤية السيادية لا يعني الحياد السلبي، بل:
بناء شبكة علاقات متعددة، قائمة على التوازن والاحترام المتبادل،
الاستفادة من الفُرص دون أن تُصبح الدولة ملعبًا لصراعات المحاور،
تحديد المصالح الوطنية العليا كمحدد وحيد للشراكة،
القدرة على التفاوض من موقع قوة أخلاقية وسياسية ومجتمعية داخلية.
بكلمات أخرى: الانفتاح الواعي الذي لا يعيد إنتاج التبعية، ولا يخلق عزلة، بل يُحوّل الجغرافيا السورية إلى مركز توازن لا ساحة استنزاف.
ثالثًا: خارطة الانفتاح الممكنة لسوريا الجديدة
مع العالم العربي:
العودة إلى الحضن العربي شرط سيادي لا تنازل فيه عن المشروع الوطني،
بناء جسور مع الدول التي ترى في استقرار سوريا عامل توازن إقليمي،
رفض تحويل الانفتاح إلى مقايضة على الهوية أو الاستقلال.
مع الاتحاد الأوروبي:
فتح قنوات جديدة تقوم على احترام التعدد والديمقراطية،
الاستفادة من الخبرات التنموية والحوكمة دون وصاية سياسية.
مع القوى الصاعدة (الصين، الهند، البرازيل، جنوب أفريقيا):
شراكات قائمة على المصالح المشتركة والبنية الاقتصادية،
كسر احتكار الغرب في العلاقات دون الوقوع في فلك جديد.
مع الولايات المتحدة وروسيا:
بناء علاقة واضحة لا ازدواجية فيها،
رفض تحويل سوريا إلى ورقة تفاوض،
التعامل مع كل قوة باعتبارها طرفًا دوليًا لا وصيًا.
رابعًا: الضوابط السيادية للانفتاح
حتى لا يتحوّل الانفتاح إلى ارتهان جديد، يجب تثبيت:
مرجعية داخلية لصناعة القرار الخارجي قائمة على مؤسسات شرعية وتمثيلية.
آليات رقابة دبلوماسية وتشريعية تمنع التفرد أو الصفقات الخفية.
رفض القواعد الأجنبية على الأراضي السورية تحت أي مسمى.
شفافية الاتفاقيات الاقتصادية والأمنية الدولية ضمن مسار مؤسساتي معلن.
إقرار مبدأ عدم الانخراط في أي محور دولي يحمل مشروعًا تقسيميًا أو هيمنيًا.
خامسًا: خطاب الانفتاح الجديد: القوة الهادئة لا الشعارات
يجب أن يُصاغ الخطاب السوري الخارجي على قواعد:
احترام الذات والسيادة الوطنية دون افتعال عداء مجاني،
تقديم سوريا بوصفها فاعلًا مسؤولًا يملك مشروعًا جامعًا لا خصمًا عدميًا،
استخدام اللغة الدبلوماسية المهنية، لا الخطاب الإيديولوجي التعبوي الذي أضعف الموقف السوري لعقود،
فتح الأبواب لكل شراكة لا تتعارض مع الاستقلال أو تنال من الداخل.
خاتمة الفصل
الانفتاح المتوازن ليس خيارًا تكتيكيًا، بل استراتيجية بقاء ونهضة لدولة تتوسط الجغرافيا السياسية للعالم، وتحتاج إلى الحضور لا الانكفاء، وإلى السيادة لا الارتهان، وإلى التوازن لا الاصطفاف الأعمى.
وسوريا التي نريدها لا تدخل المحاور كرقم تابع، بل كفاعل سيادي يُعيد رسم موقعه، ويضع مصالح شعبه فوق كل اصطفاف، ويبني علاقاته من موقع من يعرف ذاته، ويثق بمشروعه، ويُدير انفتاحه دون أن يفقد جذوره.