Page 9 - The Syrian Renaissance and Post-Despotism State-Building Project
P. 9

‫لكن بين هذه المحطات جميعًا‪ ،‬لم يكن كل شيء ش ًرا مطل ًقا‪ ،‬ولا خي ًرا مطل ًقا‪ .‬لقد ُوجدت إرادات صادقة‪ ،‬وأحًلم وطنية‪،‬‬
‫وعقول حاولت‪ ،‬حتى في أحلك الظروف‪ ،‬أن تُحدث فار ًقا‪ .‬كما ُوجد‪ ،‬في المقابل‪ ،‬طغيا ٌن‪ ،‬واستئثار‪ ،‬وفشل‪ ،‬وفساد‪،‬‬

                                                                      ‫وقمع‪ ،‬وخضوع مهين لمنظومات الخارج‪.‬‬

‫ومن هنا‪ ،‬فإن قراءتنا للماضي لا تقوم على الإدانة الشاملة‪ ،‬ولا على التبرير التاريخي‪ .‬بل نقف في المنطقة الفاصلة‬
                                                                                      ‫بين التفكيك والاستيعاب‪:‬‬

                                                         ‫‪ ‬نفكك التجارب لفهم أين أخطأت وأين أصابت‪،‬‬

                                                      ‫‪ ‬ونستوعب ما يمكن البناء عليه وما يجب تجاوزه‪،‬‬

                                                          ‫‪ ‬دون جلد ولا تزويق‪ ،‬ودون تهويل أو تحقير‪.‬‬
‫إن تجربة البعث‪ ،‬مث ًًل‪ ،‬ليست مجرد مرحلة قمعية مغلقة‪ ،‬بل أي ًضا نموذج لإرادة استحواذ متمكنة‪ ،‬نجحت في تفكيك‬
‫المجتمع وبناء جهاز دولة–سلطة‪ ،‬لكنها فشلت فش ًًل ذريعًا في التنمية‪ ،‬والعدالة‪ ،‬والسيادة‪ ،‬والتمثيل‪.‬‬
‫وحتى هذه التجربة القمعية‪ ،‬يجب فهمها لا كوح ٍش خارق‪ ،‬بل كنظام مك َّون من بشر‪ ،‬ودوافع‪ ،‬وتحالفات‪ ،‬ونزعات‪،‬‬

                                    ‫ومصالح‪ ،‬وسياقات دولية وإقليمية لعبت دو ارا حاس اما في صعوده واستمراره‪.‬‬
‫إننا لا نكتب تاري ًخا لنُدين فئة ونبرئ أخرى‪ ،‬بل لنفهم ماذا فعلت البُنى‪ ،‬والنخب‪ ،‬والعًلقات‪ ،‬والمجتمعات‪ ،‬والنظام‬

                                                                           ‫العالمي بنا‪ ،‬وماذا فعلنا نحن بأنفسنا‪.‬‬
  ‫والمراجعة التي نقوم بها هنا‪ ،‬ليست تر ًفا فكريًا‪ ،‬بل ضرورة وجودية ‪.‬لأننا إن لم نفهم كيف بدأ التآكل‪ ،‬وأين أخطأنا‪،‬‬

                                                  ‫ومن سكت‪ ،‬ومن شارك‪ ،‬ومن صمت‪ ،‬ومن حاول ولم ينجح…‬
                                                               ‫فلن نكتب إلا نسخة جديدة من الفشل‪ ،‬وربما أسوأ‪.‬‬

                                           ‫‪ .4‬من الإنسان السوري نبدأ‪ :‬جوهر النظرية وغايتها‬

‫في كل تجربة نهضة حقيقية عبر التاريخ‪ ،‬كان هناك دائ ًما إنسان معين‪ ،‬في مكان معين‪ ،‬هو محور التغيير وبوصلته‪ .‬لم‬
‫تكن النهضة يو ًما خطةً إدارية‪ ،‬ولا سياسة اقتصادية فقط‪ ،‬بل إعادة بنا ٍء للإنسان‪ ،‬من الداخل إلى الخارج ‪:‬في وعيه‪،‬‬

                                                 ‫في قيمه‪ ،‬في ثقافته‪ ،‬في عًلقته بمجتمعه وتاريخه وسلطته وذاته‪.‬‬

      ‫لهذا‪ ،‬فإن جوهر نظريتنا ليس الدولة‪ ،‬ولا الحزب‪ ،‬ولا الاقتصاد‪ ،‬ولا القانون وحدهم‪ .‬بل هو ‪:‬الإنسان السوري‪.‬‬

                                                                                              ‫لكن أي إنسان؟‬

                                                            ‫‪ ‬ليس الإنسان المتخ ّيل في كتب الطوباويين‪،‬‬

                                                     ‫‪ ‬ولا الإنسان المعصوم في نظريات الثورة المثالية‪،‬‬

                                                  ‫‪ ‬ولا الإنسان المن ّمط في ُخطط البيروقراطيات العقيمة‪،‬‬
‫‪ ‬بل الإنسان السوري الحقيقي الذي َخ ِب َر الحرب‪ ،‬والجوع‪ ،‬والخذلان‪ ،‬والغربة‪ ،‬والانقسام‪ ،‬والقمع‪ ،‬والدم‪،‬‬

               ‫والمخيم‪ ،‬والنفاق‪ ،‬والانتهازية‪ ،‬والحرمان… لكنه مع ذلك لم يُم َح‪ ،‬ولم يُل َغ‪ ،‬ولم ينكسر كليًا‪.‬‬
‫إنسا ٌن يحمل جراحه في صدره‪ ،‬وذاكرة ثقيلة في قلبه‪ ،‬لكنه لا يزال – رغم كل شيء – قاد ارا على التخ ّيل‪ ،‬وعلى العمل‪،‬‬

                                                                      ‫وعلى الحب‪ ،‬وعلى الغضب‪ ،‬وعلى الحلم‪.‬‬

                                                                  ‫هذا الإنسان‪ ،‬هو جوهر النظرية‪ ،‬وهو غايتها‪.‬‬
                            ‫نحن لا نؤسس مشرو ًعا ليُعجب المفكرين‪ ،‬ولا ليُرضي المانحين‪ ،‬ولا ليُساير التحالفات‪.‬‬

                                                                   ‫بل نؤسس مشرو ًعا من هذا الإنسان‪ ،‬ولأجله‪.‬‬

‫‪9|Page‬‬
   4   5   6   7   8   9   10   11   12   13   14