القسم السادس – الباب الأول
الفصل الثامن الأمن الديمقراطي
نحو أمن مدني يحمي الدولة والمجتمع
مقدمة الفصل
في مشروع النهضة السورية، لا يُنظر إلى الأمن بوصفه مجرد جهاز لحماية النظام السياسي، بل كوظيفة سيادية للدولة، غايتها حماية الإنسان، وصون القانون، وضمان استقرار المجتمع ضمن حدود الحرية والكرامة.
فالأمن في الدولة الديمقراطية لا يُقاس بكمية الاعتقالات أو بطول المراقبة، بل يُقاس بمدى شعور المواطن بالأمان في ممارسة حقوقه، وبمدى التزام الأجهزة الأمنية بخدمة الشعب لا السلطة، وبخضوعها للقانون لا خضوعها له.
ولذلك، فإن هندسة منظومة أمنية جديدة لسوريا لا تُعدّ تفصيلًا إداريًا، بل هي تحوّل جذري في فلسفة الدولة ذاتها: من دولة البوليس إلى دولة القانون، من أمن الحاكم إلى أمن المجتمع.
أولًا: إشكالية الأمن في سوريا القديمة – من الحماية إلى السيطرة
شهدت سوريا، لا سيما منذ استلام البعث للسلطة، انزلاقًا خطيرًا في وظيفة الأمن، حيث تحولت الأجهزة الأمنية إلى:
أدوات للضبط السياسي والاجتماعي.
شبكات قمع وسجون سرية.
وسائط للاعتقال التعسفي والتعذيب.
أجهزة فوق القانون، لا تُحاسب ولا تُراجع.
وأدى ذلك إلى:
تدمير الحياة العامة، وإخضاع المجتمع لرقابة دائمة.
تقويض الثقة بين المواطن والدولة.
تحويل الأمن من وظيفة وطنية إلى “دولة داخل الدولة”.
إن مشروع النهضة لا يسعى إلى تحسين هذه المنظومة، بل إلى تفكيكها بالكامل وإعادة بنائها على أسس مدنية، قانونية، وإنسانية.
ثانيًا: المبادئ التأسيسية للأمن الديمقراطي
يعتمد مشروع الأمن الديمقراطي على المبادئ التالية:
خضوع الأمن للدستور والقانون: لا عمل أمني خارج المسار القانوني، ولا شرعية لأية عملية لا تستند إلى إذن قضائي ومبرر قانوني.
الرقابة المدنية والمؤسساتية: تخضع الأجهزة الأمنية لرقابة البرلمان، والقضاء، وهيئات المجتمع المدني.
الشفافية والحق في المعرفة: للمواطن الحق في معرفة القوانين الناظمة للعمل الأمني، والضمانات التي تحميه من التعسف.
فصل الأمن عن السياسة: يُمنع استخدام الأجهزة الأمنية في الصراعات السياسية أو لصالح أحزاب أو شخصيات.
الاحترافية والكفاءة: تعتمد الأجهزة الأمنية على كوادر مدربة، ملتزمة بأخلاقيات العمل الأمني، خاضعة للتقييم والمحاسبة.
حماية الحقوق والحريات: وظيفة الأمن الأساسية هي حماية حياة المواطن، وحقوقه الأساسية، وليس مراقبته أو قمعه.
ثالثًا: هيكل المنظومة الأمنية الجديدة – من التشظي السلطوي إلى البنية المؤسسية
وزارة الأمن الوطني:
هيئة مدنية تتبع للحكومة مباشرة، وتُشرف على كافة الأجهزة الأمنية.
مسؤولة عن رسم السياسات الأمنية العامة ومراجعة أدائها.
جهاز الأمن الداخلي (الشرطة الوطنية):
جهاز مدني مسؤول عن الأمن العام، ومكافحة الجريمة.
يخضع للرقابة القضائية والمساءلة المحلية.
جهاز أمن الدولة:
جهاز متخصص في مكافحة التهديدات الكبرى (الإرهاب، التجسس، الخطر السيبراني).
يُخضع عمله لإذن قضائي في كل إجراء، ويُحاسب أمام البرلمان.
هيئة الرقابة الأمنية المدنية:
هيئة مستقلة مكوّنة من حقوقيين وبرلمانيين وممثلي المجتمع المدني.
تملك صلاحية التحقيق في شكاوى المواطنين ضد الأجهزة الأمنية.
رابعًا: إصلاح الكادر الأمني – من الولاء إلى المهنية
تطهير الأجهزة من المتورطين في انتهاكات سابقة.
إعادة هيكلة التوظيف: عبر اختبارات كفاءة ونزاهة، وبرامج تأهيل.
إنشاء أكاديمية الأمن المدني: تعتمد مناهج حقوق الإنسان، القانون الدستوري، والنفسية الاجتماعية.
خامسًا: الأمن كوظيفة وقائية لا قمعية
في الدولة الديمقراطية، يكون الأمن:
وقائيًا لا انتقاميًا.
تواصليًا لا استجوابيًا.
شفافًا لا سرّيًا بلا حدود.
ولهذا، يجب اعتماد:
برامج شراكة بين الشرطة والمجتمع المحلي.
تعزيز آليات الإنذار المبكر في القضايا المجتمعية.
دعم وحدات حماية المرأة، الأطفال، والأقليات.
سادسًا: التحديات المتوقعة وآليات المواجهة
الإرث الثقيل للأجهزة القديمة:
يُواجه عبر المحاسبة القانونية، والفرز المهني.
مخاطر تغوّل الأجهزة الجديدة:
عبر إحكام الرقابة المؤسساتية والشعبية.
ضعف الثقة الشعبية:
عبر بناء خطاب أمني جديد، شفاف، وأخلاقي.
المخاطر الخارجية (تجسس، إرهاب، تدخلات):
يُجابَه عبر جهاز استخبارات وطني، مستقل، خاضع للقانون.
خاتمة الفصل
إن بناء أمن ديمقراطي ليس مجرد إصلاح لأجهزة مهترئة، بل هو إعادة تعريف لدور الدولة نفسها:
من سلطة تُخيف إلى دولة تحمي.
من جهاز يُراقب إلى مؤسسة تَخدم.
من أمن الطغيان إلى أمن الإنسان.
وهكذا، تصبح الأجهزة الأمنية في سوريا النهضة جزءًا من العقد الاجتماعي، لا كابوسًا فوقه، وتتحول من جدار قمع إلى درع شرعي يحمي الجميع.