القسم الأول
الفصل الثامن الاحتباس التاريخي
كيف انغلقت الدولة على نفسها؟
مدخل فلسفي–تاريخي:
ليست الدولة مجرد جهاز، بل كيانٌ تاريخي يعيش على صيرورته.
حين تتوقف الدولة عن التفاعل مع مجتمعاتها،
حين تنظر إلى ماضيها بوصفه ذروة لا بداية،
وتغلق على حاضرها كحقيقة نهائية،
وتخاف من كل تجديد كأنه تهديد،
فإنها تدخل ما يمكن تسميته بـ “الاحتباس التاريخي“.
وهو حالة يتوقف فيها الزمن السياسي،
وتُجمَّد فيها الحركة الاجتماعية،
ويُدار الوطن كأرشيف لا كمشروع.
في سوريا، لم يكن هذا الاحتباس عرضًا عابرًا،
بل نتيجة حتمية لبنية سلطوية قاومت الإصغاء،
واعتبرت التغيير تهديدًا،
والإصلاح ضعفًا،
والتاريخ سردية مغلقة لا تُراجع… بل تُكرَّس.
أولًا: من التأسيس إلى التقديس – كيف تحوّلت الدولة إلى تمثال؟
كل دولة تحتاج سردية تأسيس،
لكن في الحالة السورية، تحوّلت سردية التأسيس إلى أداة للتقديس.
- حرب تشرين صارت مرجعًا أبديًا.
- “الاستقرار” في عهد الأسد الأب صار معيارًا لكل زمن لاحق.
- تم تكريس صورة الدولة كما كانت في السبعينات كأنها “النموذج” الكامل،
وتمّ تجميد أي نقاش في ماهية الدولة أو وظيفتها أو مشروعها.
وهكذا، تم ترسيخ قناعة مفادها أن:
“كل ما هو قائم… يجب أن يبقى كما هو.”
فانغلقت الدولة على ماضيها،
واختزلت تاريخها في لحظة واحدة،
وحرّمت المستقبل.
وتم اختزال الزمن الوطني في لحظةٍ مجيدة لا تُمس،
وتم تحنيط الدولة باسم “الإنجاز”،
وبدأت سياسة العيش داخل سردية واحدة… تخاف من كل سردية مغايرة.
ثانيًا: تحنيط البيروقراطية – من الإدارة إلى السكون
لم تكن المشكلة في القوانين فقط،
بل في تحوّل جهاز الدولة إلى كيان بلا ذاكرة حية ولا قدرة على التجدد.
- الموظف يُكافَأ على الطاعة، لا على الابتكار.
- المؤسسات تُدار بعقلية الحذر، لا الرؤية.
- لا مساحات للتجريب، ولا آليات لاستيعاب الأخطاء.
- الحوافز تُوزَّع للتابعين، لا للمبادرين.
فأنتج ذلك جهازًا إداريًا ضخمًا، لكنه مشلول.
مليء بالحضور، خالٍ من الفعل.
يُدير الملفات، لا يحل الأزمات.
يملأ الأوراق، لا يصنع القرار.
وبهذا، أصبحت الدولة “موجودة في كل مكان، ولكنها غائبة عن كل شيء”.
جهاز يُكرّر ذاته، لا يطوّر أدواته،
وموظف ينفّذ التعليمات لا يجرؤ على المبادرة،
ومؤسسة تُدير الورق… لا تصنع الفعل.
ثالثًا: الخوف من الزمن – الدولة كسلطة ضد المستقبل
من أبرز ملامح الاحتباس التاريخي في سوريا،
هو تحوّل الدولة إلى سلطة تخاف من الزمن.
لا لأن التغيير خطر بذاته،
بل لأنه قد يكشف هشاشة ما تم تقديمه كـ”منجز خالد”.
- الإصلاح يُؤجَّل دائمًا لأنه يفتح أبوابًا مجهولة.
- المشاركة السياسية تُرفض لأنها تُربك الانسجام الوهمي.
- أي نقاش حول الهوية أو الإدارة أو التمثيل يُعتبر مساسًا بالأمن.
- والتجديد الدستوري يُعاد إنتاجه تحت عناوين “التطوير والتحديث” دون مساس بالجوهر.
وهكذا، تم تحويل “الزمن” من حليف للتقدّم، إلى “عدوٍّ” يجب كبحه.
فلا شيء يتغير… إلا للأسوأ.
فتم تجريم المستقبل بوصفه خيانة للثوابت،
وتحويل كل إصلاح إلى شكلانيات فوق سطح مشلول.
رابعًا: انعزال الدولة عن المجتمع – فقدان التفاعل وانفصال المسار
حين تدخل الدولة في طور الانغلاق،
تبدأ شيئًا فشيئًا بالانفصال عن مسار المجتمع.
- لا تُصغي لصوته،
- لا تلتقط تحوّلاته،
- لا تفهم شبابه،
- لا تقرأ شكاواه إلا بوصفها خطرًا.
وفي المقابل، يبدأ المجتمع بفقدان الثقة،
ثم بالانسحاب،
ثم بإنتاج فضاءات موازية: دينية، عشائرية، مناطقية، خارج مؤسسات الدولة.
في اللحظة التي يُصبح فيها المجتمع شيئًا والدولة شيئًا آخر،
تفقد الدولة معناها،
وتنتفي الوطنية كعقد، وتتحوّل إلى أناشيد لا يسمعها أحد… إلا الأجهزة..
خامسًا: من الجمود إلى الانفجار – اللحظة التي لم تُرِد الدولة أن تراها
الاحتباس لا يدوم.
فحين تتوقف الدولة عن التفاعل،
يتحوّل المجتمع إلى بركان صامت،
يتراكم غضبه، ويفقد لغته، ويشتد عجزه،
حتى تأتي لحظة لا يمكن فيها احتواء الزمن،
ولا إدارة الانفجار.
وهذا ما جرى في 2011.
الدولة التي حبست نفسها في قوالب الماضي،
فوجئت بمجتمع لم يعد يريدها كما كانت،
ولم يكن لديها لا اللغة، ولا الأدوات، ولا الشجاعة للاعتراف.
فاختارت القمع…
فخسرت المجتمع،
ثم الجغرافيا،
ثم ذاتها… كمشروع سياسي وتاريخي.
خلاصة الفصل:
الاحتباس التاريخي ليس فشلًا إداريًا،
بل انتحار سياسي بطيء،
تقوم به دولة فقدت ثقتها بنفسها وبمجتمعها،
فقررت أن تُجمّد كل شيء حتى لا تُواجَه بالحقيقة.
لكن الحقيقة لا تموت،
والمجتمعات لا تصبر للأبد.
ولهذا، فإن النهضة ليست فقط فعل بناء،
بل فعل تحرّر من الانغلاق، ومن عبادة الماضي، ومن الخوف من التغيير.
النهضة هي اللحظة التي تفتح فيها الدولة نوافذها… وتتنفّس مع الناس.
والنهضة هي انفتاح الزمن السياسي مجددًا على التاريخ كاحتمال،
وعلى المجتمع كشريك،
وعلى الدولة كحقل فعلٍ حي… لا قيد زمني مؤبد.