web analytics
القسم الثاني – الباب الأول

الفصل الثامن العدالة في مشروع النهضة

من قانون القوة إلى قوة القانون

مدخل فلسفي–حقوقي:

العدالة ليست مؤسسة،
ولا حكمًا قضائيًا،
ولا مجرّد “تطبيق القانون”.

بل هي الإطار الأخلاقي الذي يمنح الدولة مشروعيتها،
ويعطي المواطن معنى لمواطنيته،
ويُحوّل العقد الاجتماعي من حبر على ورق… إلى واقع يُحسّ ويُمارس.

في الأنظمة التسلطية، تكون العدالة دومًا تحت السيطرة:
يُستخدم القضاء كسلاح،
ويُشرّع القانون للقمع،
ويُحرّك الادعاء العام لا لمحاسبة الفاسدين، بل لإسكات المعارضين.

وفي سوريا، لم يكن هذا استثناءً،
بل كان هو القاعدة.

ولهذا، فإن مشروع النهضة لا يمكن أن يُبنى دون تفكيك منظومة اللاعدالة،
وبناء منظومة جديدة تعيد للعدالة معناها الأخلاقي، ووظيفتها التأسيسية في حياة الأفراد والجماعات.

أولًا: انهيار العدالة في التجربة السورية – من التشريع إلى التسلط

منذ زمن بعيد، لم يكن القانون في سوريا أداة لحماية الحقوق،
بل أداة لتكريس السلطة.

  • قوانين الطوارئ شرّعت القمع لعقود.
  • المحاكم الاستثنائية (محكمة أمن الدولة، محكمة الإرهاب) خرقت كل ضمانات المحاكمة العادلة.
  • القضاء الإداري صار أداة لتكريس التمييز الوظيفي والطائفي.
  • النيابة العامة أصبحت تابعة للسلطة التنفيذية.
  • المحاماة صارت مهنة مراقَبة، لا مدافعة.

بل إن التشريع نفسه فقد وظيفته المجتمعية،
وتحوّل إلى:

  • إمّا نصوص جامدة لا تُطبّق،
  • أو أدوات تستجيب لحاجات السلطة لا لحاجات المجتمع،
  • أو منظومة مزدوجة تُفرّق بين “المواطن المحسوب” و”المواطن المنسي”.

ثانيًا: العدالة كقيمة قبل أن تكون نظامًا

في فلسفة النهضة، لا نبدأ من “النظام القضائي”،
بل من سؤال القيمة:
ما هي العدالة التي نريدها؟ ولمن؟ ولماذا؟

ولذلك، نعيد تعريف العدالة بوصفها:

مبدأ أخلاقي–سياسي، يؤسس لمجتمع متساوٍ في الكرامة والحق،
ويضع القانون في خدمة الإنسان، لا العكس،
ويضمن أن لا يكون أحد فوق القانون… ولا أحد تحته.

العدالة في مشروعنا ليست انتقامًا،
ولا توزيعًا سياسيًا للحقوق،
ولا مجرد استقلال شكلي للمحاكم،
بل هي بناء ثقافة، ومؤسسات، ونظام قيمي متماسك.

ثالثًا: أركان منظومة العدالة في الدولة النهضوية

  1. استقلال القضاء الكامل، في التعيين، والقرار، والإدارة، والميزانية.
  2. دسترة المحاكمة العادلة: علنية، علنية، علنية… مع ضمان الدفاع وعلو القانون.
  3. فصل النيابة العامة عن السلطة التنفيذية.
  4. تحصين القضاة من الابتزاز والتدخل الأمني.
  5. إلغاء كل المحاكم الاستثنائية نهائيًا.
  6. مراجعة شاملة للمنظومة التشريعية بما يضمن تطابقها مع الحقوق والكرامة.
  7. إعادة صياغة دور المحاماة كجزء من منظومة الدفاع عن الحرية، لا فقط كمهنة.

رابعًا: العدالة الانتقالية – لا مصالحة بدون حقيقة، ولا تسامح بدون محاسبة

لا يمكن لسوريا أن تُشفى دون مواجهة ما جرى:

  • من اعتقالات،
  • من تعذيب،
  • من قتل خارج القانون،
  • من تغييب قسري،
  • من إفلات تام من العقاب.

ولهذا، فإن العدالة الانتقالية هي ركيزة مركزية في مشروع النهضة،
لكن ليست بوصفها أداة انتقام،
بل بوصفها:

مسارًا لكشف الحقيقة، ومحاسبة الجلاد، وإنصاف الضحية،
وحماية المستقبل من تكرار الجريمة،
وبناء مصالحة لا تقوم على النسيان، بل على الاعتراف، والتحمّل، والوضوح.

خامسًا: العدالة الاجتماعية – لأن غياب العدل لا يكون بالقانون فقط

نُعيد التذكير هنا أن العدالة ليست فقط قضائية،
بل اجتماعية واقتصادية أيضًا.

  • حين لا يحصل الفقير على تعليم جيد… فهذه لاعدالة.
  • حين يُقسّم الريف من التنمية… فهذه لاعدالة.
  • حين يُمنح القرب من السلطة امتيازات وظيفية… فهذه لاعدالة.
  • حين تكون المرأة ناقصة الحقوق في القانون والممارسة… فهذه لاعدالة.

ولذلك، فمشروع العدالة يجب أن يكون جامعًا لكل مستويات الحياة،
من القضاء إلى المدرسة،
من الوظيفة إلى السكن،
من الإعلام إلى الرعاية الصحية.

خاتمة الفصل: العدالة بوصفها رافعة النهضة، لا تابعة لها

لا يمكن لمجتمع أن ينهض،
إذا بقيت العدالة حبيسة الشعار،
وإذا ظلت المحاكم مسيسة،
وإذا عاش الناس بلا ضمانات،
ولا حماية،
ولا شعور بأن هناك “ميزانًا” يحميهم من الغلبة.

العدالة، في مشروعنا، هي أساس التعاقد،
وشرط المصالحة،
وبوصلة القيم،
وضمانة أن لا يُعاد إنتاج الطغيان باسم القانون.

فقط حين تكون العدالة أفقًا يوميًا، لا حدثًا استثنائيًا،
ومبدأ لا أداة،
وثقافة لا نصًا مجرّدًا
تبدأ النهضة في التحول من حلم إلى واقع.