web analytics
القسم الخامس

الفصل الثامن منظومة الحقوق والحريات

الحصن الأخلاقي للدولة الجديدة

مقدمة الفصل

في كل دولة تنشد الخروج من أتون الحرب والانقسام نحو أفق الدولة الحديثة،
تُشكّل الحقوق والحريات الفردية حجر الزاوية،
ليس فقط كضمانات دستورية، بل كأساس أخلاقي وسياسي لشرعية الدولة نفسها.

في سوريا،
حيث طال القمع كل مساحة عامة وخاصة،
وتحوّل الإنسان إلى مجرد “تابع” أو “متهم”،
تصبح مهمة إعادة تأسيس منظومة الحقوق والحريات ليست مهمةً إصلاحيةً فقط،
بل مهمةً تأسيسيةً لولادة الدولة الوطنية ذاتها.

لا يمكن بناء عقد اجتماعي حر،
ولا تأسيس سلم أهلي مستدام،
ولا إطلاق نهضة سياسية أو ثقافية أو اقتصادية،
دون وضع الحقوق والحريات في صلب كل بناء مؤسساتي، وتشريعي، وسياسي.

أولًا: الحقوق والحريات – بين النظرية والممارسة

1. مفهوم الحقوق والحريات

الحقوق: ضمانات أساسية تسبق الدولة، ولا تمنحها الأنظمة بل تعترف بها.

الحريات: مجالات حركة واختيار للفرد، تحمي استقلاله وكرامته.

2. الفرق بين الحقوق المكتوبة والحقوق الفعلية

الدساتير السلطوية مليئة بالنصوص حول الحقوق، لكنها نصوص مفرغة من أي مضمون حقيقي.

الحق لا يكون حقًا إلا إذا كان مصانًا فعليًا، وقابلًا للممارسة دون خوف أو قيد تعسفي.

3. جوهر الدولة الحديثة

الدولة الحديثة تُقاس بمدى احترامها لحقوق الأفراد،

لا بعدد مشاريعها أو حجم مؤسساتها أو قوة جيوشها.

ثانيًا: مرتكزات منظومة الحقوق والحريات في سوريا الجديدة

1. كرامة الإنسان كمصدر كل الحقوق

كل إنسان يُكرّم بمجرد وجوده، لا بناءً على دينه أو قوميته أو رأيه السياسي.

2. المواطنة المتساوية

لا تمييز بين المواطنين في الحقوق والواجبات لأي سبب كان: ديني، طائفي، عرقي، مناطقي، سياسي، أو جندري.

3. الحرية بوصفها قاعدة لا استثناءً

الأصل هو حرية الفكر، والضمير، والتعبير، والتنظيم، والتنقل.

كل قيد على الحرية يحتاج إلى مبرر دستوري ضيق، خاضع لرقابة صارمة

4. سيادة القانون

لا حماية للحقوق بدون قضاء مستقل،

ولا ضمان للحرية بدون قانون يخضع له الجميع بالتساوي.

ثالثًا: الحقوق الأساسية التي يجب تحصينها دستوريًا

1. الحقوق المدنية والسياسية

حق الحياة والأمان الشخصي.

حرية الرأي والتعبير والإعلام والنشر.

حرية التنظيم السياسي والنقابي والاجتماعي.

الحق في المحاكمة العادلة أمام قضاء مستقل.

حرية المعتقد الديني وممارسة الشعائر بدون إكراه أو تمييز.

الحق في الترشح والانتخاب بحرية ومساواة.

2. الحقوق الاقتصادية والاجتماعية

الحق في العمل اللائق.

الحق في التعليم المجاني المتاح للجميع.

الحق في الرعاية الصحية الشاملة.

الحق في السكن الكريم.

الحق في بيئة نظيفة وصحية.

3. الحقوق الثقافية

حماية التنوع الثقافي واللغوي للأقليات.

ضمان الحق في تطوير الهوية الثقافية والانتماء الحر.

4. حماية الفئات المستضعفة

حماية حقوق النساء ضد جميع أشكال العنف والتمييز.

حماية حقوق الأطفال بوصفهم مواطنين كاملي الحقوق.

دعم ذوي الاحتياجات الخاصة وضمان مشاركتهم الكاملة في الحياة العامة.

رابعًا: ضمانات دستورية ومؤسساتية لحماية الحقوق والحريات

1. دستور لا يقبل الانتهاك

وضع نصوص دستورية صريحة وقاطعة حول الحقوق والحريات،

وإخضاع أي قانون أو قرار يتعارض معها للإبطال القضائي التلقائي.

2. قضاء دستوري مستقل

محكمة دستورية عليا فعالة وقادرة على حماية الحقوق من تغول السلطة التنفيذية أو التشريعية.

3. مؤسسات رقابية مستقلة

مؤسسات وطنية لحقوق الإنسان تراقب أداء الدولة بشكل مستقل وتصدر تقارير علنية.

4. حرية الإعلام

إعلام حر ومسؤول، يحمي النقد العام، ويكشف الانتهاكات، ويعزز ثقافة الحقوق.

5. تمكين المجتمع المدني

جمعيات ونقابات ومنظمات مستقلة تراقب أداء الدولة وتحمي مصالح المواطنين.

خامسًا: التحديات المحتملة أمام بناء منظومة الحقوق والحريات

1. مقاومة القوى التقليدية

قوى سياسية–اجتماعية اعتادت الهيمنة، قد تقاوم إطلاق الحريات بحجة “الاستقرار” أو “الأمن”.

2. ثقافة الخوف والخضوع

إرث طويل من الاستبداد جعل كثيرًا من الناس يخافون من ممارسة حرياتهم أو يرفضونها ضمنيًا.

3. التسييس والانتهازية

بعض الأطراف قد تحاول استغلال شعارات الحقوق والحريات بشكل انتهازي لخدمة أجندات فئوية أو إقصائية.

4. تدخلات القوى الخارجية

بعض القوى الدولية قد تدعم قوى محلية تقوض الحقوق تحت مسمى “التحالفات الاستراتيجية”.

سادسًا: استراتيجية ترسيخ الحقوق والحريات في الثقافة العامة

1. التربية على الحقوق

مناهج مدرسية تعلّم الأطفال منذ الصغر أن الحرية والكرامة حقوق طبيعية وليست منحًا من السلطة.

2. الإعلام النقدي الواعي

حملات توعية دائمة حول الحقوق، وفضح أي انتهاك لها دون انتقائية أو مساومة.

3. تمكين الضحايا

تحويل الضحايا إلى رواة نشطين لحقوقهم، لا إلى مجرد موضوعات للشفقة أو أدوات سياسية.

4. تدرج قانوني متسق

الإصلاح التشريعي يجب أن يكون متدرجًا ولكنه غير قابل للتراجع،

بحيث تبنى الحقوق حجراً فوق حجر حتى تستقر كجزء لا ينفصم من العقد الاجتماعي الجديد.

خاتمة الفصل

الحرية ليست منحة.
والحق ليس مكافأة.

في سوريا الجديدة،
لن يكون المواطن تابعًا يتوسل حقه،
بل سيكون مالكًا لحقوقه بالميلاد،
ومؤتمنًا عليها بالقانون،
وحارسًا لها بالمواطنة الحرة المسؤولة.

إن منظومة الحقوق والحريات،
ليست فقط ضمانة للفرد،
بل هي الحصن الذي يحمي الدولة نفسها من الانحراف إلى الاستبداد،
ويحمي المجتمع من العودة إلى أحضان العصبية والطغيان.

لهذا،
فإن مشروع النهضة لا يرى في الحقوق والحريات ملفًا قانونيًا ثانويًا،
بل يراها روح الدولة الجديدة،
ومعنى وجودها،
ومعيار نجاعتها،
ومصدر شرعيتها الوحيد.