القسم السادس – الباب الثاني
الفصل الثامن عشر من الأدوات إلى السيادة
الدولة بوصفها وظيفة مجتمعية شاملة
مقدمة تحوّلية
لقد اعتدنا أن ننظر إلى “الدولة” كسلطة،
وإلى مؤسساتها كأجهزة تنفيذ،
وإلى سياساتها كأوامر تُنَفذ من فوق.
لكن مشروع النهضة لا يعيد فقط بناء مؤسسات الدولة،
بل يعيد صياغة وظيفتها وفلسفتها وموقعها من المجتمع،
باعتبارها انعكاسًا لعقد جمعي، لا سلطة مفروضة.
وهذا الفصل لا يضيف معلومات تقنية،
بل يُقدِّم الربط النهائي بين ما بُني في هذا القسم من أدوات، وما يجب أن تُحققه الدولة بوصفها “وسيطًا بين المجتمع والسيادة“.
أولًا: من الأجهزة إلى المعنى – كيف تتجسد السيادة؟
كل مؤسسة إصلاحية – من الشرطة إلى المحكمة،
ومن الجيش إلى المجالس المحلية،
ومن السياسات الدفاعية إلى استراتيجيات التنمية –
ليست مجرد بنية تنظيمية،
بل وسيلة لترسيخ المعنى السيادي التالي:
- أن الدولة لا تملك الناس، بل تُمثّلهم.
- أن الأمن ليس ترويعًا، بل ضمان لكرامة العيش.
- أن الاقتصاد ليس تحصيل موارد، بل توزيع للفرص والعدالة.
- أن الثقافة ليست وسيلة ضبط، بل فضاء تنوير واعتراف.
ثانيًا: الدولة بوصفها وسيطًا لا وصيًا
في البنية السلطوية السابقة، كانت الدولة:
- وصية على المجتمع،
- خصمًا في الفضاء العام،
- أداة سيطرة،
- ومصدر تهديد دائم.
أما في مشروع النهضة، فالدولة تتحول إلى:
- وسيط مؤسسي ينظم تفاعل المصالح والقيم،
- أداة ضبط توازن لا فرض إرادة،
- وكيان يربط المواطن بالسيادة لا يقطعه عنها.
ثالثًا: الدولة كتجسيد للسيادة الجمعية
- المؤسسة الأمنية = الضامن للسلام المجتمعي، لا الخوف.
- السلطة الإدارية = جسد الدولة، تعمل بلا فساد أو تمييز.
- المؤسسة القضائية = لسان المجتمع أمام التعسف، لا سيف الحاكم.
- السياسات الاقتصادية = إعادة توزيع للفرص، لا احتكار للثروة.
- الهوية الثقافية = مرآة الشعب بتنوعه، لا قناع السلطة.
رابعًا: معيار النجاح ليس شكل الدولة بل أثرها
الدولة ليست جميلة بما تكتبه في الدستور،
بل بما تحققه من أثر على المواطن العادي،
– في العدالة،
– في الأمان،
– في الدخل،
– في الكرامة،
– في الحق بالاعتراض،
– وفي الشعور بأنك لست مستهلكًا لها، بل شريك في صناعتها.
خامسًا: نحو الدولة الأخلاقية – الترجمة العملية للسيادة
إن مشروع النهضة لا يدعو لدولة تكنوقراطية بلا روح،
ولا لدولة ثيوقراطية بلا عقل،
بل إلى دولة أخلاقية–مدنية–سيادية،
تعمل بمؤسسات محترفة،
لكنها تقيس نجاحها بمقدار ما يُستعاد من كرامة الناس.
فلا سيادة بدون مشاركة،
ولا مشاركة بدون أدوات عادلة،
ولا أدوات بدون هندسة رشيدة،
ولا هندسة بدون رؤية تؤمن أن السلطة وظيفية، والمواطن هو الأصل.
خاتمة الفصل – ختمٌ للقسم السادس
لقد أسّس هذا القسم السادس البنية المؤسساتية للدولة السيادية،
وفكّك أدوات الاستبداد القديم،
وأنشأ فضاءً جديدًا تُمارَس فيه السيادة من خلال مؤسسات:
– تؤمن بالقانون،
– تحترم المجتمع،
– وتُدار بمنطق الخدمة لا الهيمنة.
لكن هذه الأدوات، بكل ما فيها من هندسة وقوة،
ستبقى بلا معنى،
ما لم يتحوّل المواطن من متلقٍ إلى شريك،
ومن تابع إلى صانع،
ومن مُراقَب إلى رقيب،
ومن ضحية جهاز، إلى صاحب دولة.