القسم الخامس
الفصل الثامن عشر مفهوم السلم الأهلي في سياق التحول الوطني
من وقف القتال إلى بناء المصالحة التعاقدية
مقدمة الفصل
حين تخرج المجتمعات من حروب أهلية دامية، تتردد في فضائها السياسي والثقافي كلمة “السلم الأهلي” بوصفها غاية منشودة، وأملًا عامًا، وشرطًا لبدء الإعمار وإعادة بناء الدولة.
لكن التجربة التاريخية في سوريا وغيرها أثبتت أن وقف إطلاق النار لا يعني تحقق السلم الأهلي، وأن مجرد غياب الحرب لا يضمن ولادة السلام.
فالسلم الأهلي، إذا أردناه ثابتًا وعميقًا، لا يكون مجرّد غياب للعنف، بل بناءً فعليًا لعقد اجتماعي جديد يقوم على الاعتراف المتبادل، والعدالة، وتجاوز آليات الانتقام الجماعي، والتحرر من الرواسب الطائفية والعشائرية التي فجرت الصراع.
في هذا الفصل، نعيد تفكيك مفهوم السلم الأهلي بعيدًا عن الشعارات والمصالحات الزائفة، ونعيد تأسيسه بوصفه مشروعًا سياسيًا–قانونيًا–ثقافيًا، ضرورته تكافئ ضرورة بناء الدولة ذاتها.
أولًا: الفرق الجوهري بين وقف القتال والسلم الأهلي
من الخطأ الكبير الخلط بين المفهومين:
وقف القتال: إجراء عسكري–أمني، ينهي العمليات المسلحة مؤقتًا أو دائمًا.
السلم الأهلي: حالة اجتماعية–سياسية مستدامة، تقوم على قطيعة حقيقية مع منطق العنف، وعلى تأسيس علاقات تعاقدية متساوية بين مكونات المجتمع.
ولهذا:
قد يتحقق وقف القتال بوساطة خارجية، أو بتوازن قوى هش، دون أن يتحقق السلم الأهلي.
أما السلم الأهلي فلا يمكن أن يُفرض من الخارج أو ينتج عن توازن الرعب، بل ينبثق من الداخل بفعل مشروع وطني جامع.
ثانيًا: أسس السلم الأهلي الحقيقي
لبناء سلم أهلي مستدام في سوريا، لا بد من تأسيسه على مرتكزات صلبة، أبرزها:
الاعتراف المتبادل بين المكونات: لا سلم حقيقي دون اعتراف كل جماعة بحق الجماعات الأخرى في الوجود والمساواة والكرامة.
تحرير الهوية الوطنية من التوظيف الطائفي أو العرقي: بحيث يصبح الانتماء للوطن فوق أي انتماء فرعي.
إرساء عدالة انتقالية حقيقية: تعالج المظالم الفردية دون اللجوء إلى العقاب الجماعي أو الانتقام.
تفكيك منظومات العنف الأهلي: بحلّ الميليشيات، ونزع السلاح، وإعادة دمج المقاتلين في الحياة المدنية عبر برامج حقيقية.
ترسيخ حكم القانون واستقلال القضاء: ليكون المرجعية الوحيدة لفضّ النزاعات وحماية الحقوق.
بناء ثقافة جديدة للعيش المشترك: من خلال التعليم، والإعلام، والعمل المجتمعي، تنزع فتائل الكراهية والخوف المتراكم.
ثالثًا: مخاطر المصالحات الشكلية والزائفة
في كثير من التجارب، جرى الترويج لـ”مصالحات وطنية” شكلية، لم تحقق سلامًا حقيقيًا، بل مهدت لجولات جديدة من العنف.
ومن مظاهر المصالحات الزائفة:
فرض الاتفاقات بالقوة: مما يجعل المصالحة استسلامًا مؤقتًا ينتظر اللحظة المناسبة للانتقام.
تجاهل الجرائم والانتهاكات دون معالجة أو محاسبة: مما يراكم شعورًا بالظلم والدونية لدى الضحايا.
التغاضي عن الأسباب البنيوية للصراع: كالطائفية، والتمييز، والتهميش، مما يترك جذور الأزمة قائمة.
إقصاء الأطراف الأضعف من العملية السياسية: مما يحول المصالحة إلى صفقة بين أمراء الحرب الكبار على حساب المجتمع.
ولهذا، نؤكد أن السلم الأهلي لا يقوم على نسيان الجراح أو التواطؤ مع الجريمة، بل على الاعتراف، والمحاسبة العادلة، وإعادة بناء الروابط المجتمعية المقطوعة.
رابعًا: العلاقة بين العدالة الانتقالية والسلم الأهلي
لا سلم أهلي دون عدالة انتقالية حقيقية.
العلاقة بين الاثنين عضوية:
العدالة الانتقالية تؤسس للاعتراف بالجرائم والانتهاكات، وتضع حدًا للإفلات من العقاب، وتضمن جبر ضرر الضحايا.
السلم الأهلي يحتاج إلى ذاكرة جماعية صادقة لا تقوم على الإنكار ولا على الثأر.
بمعنى أدق:
العدالة الانتقالية تعالج الماضي بطريقة تمنع تكراره.
والسلم الأهلي يبني المستقبل على أسس جديدة من الثقة والندية.
ومن هنا، فإن أي مشروع للسلم الأهلي في سوريا يتجاهل العدالة أو يؤجلها سيكون مجرد هدنة هشة، لا سلامًا دائمًا.
خامسًا: معايير بناء السلم الأهلي في سوريا
نقترح اعتماد معايير واضحة لبناء السلم الأهلي، منها:
مبدأ المسؤولية الفردية: كل إنسان يُحاسب على أفعاله هو، لا على انتمائه.
منع أي صيغة للعقاب الجماعي: سواء ضد طائفة، أو عشيرة، أو منطقة.
إدماج الضحايا في صياغة المستقبل: عبر مشاركة حقيقية في صناعة القرار، لا عبر الاستيعاب الرمزي.
تكريس الحق في الذاكرة دون التحريض على الكراهية: بحيث لا يُفرض على الضحايا النسيان القسري، ولا تُستغل معاناتهم سياسيًا.
تعزيز السياسات الاجتماعية والاقتصادية العادلة: لمحو الفوارق التي غذت النزاعات.
استعادة التعليم والإعلام لدورهما الوطني الجامع: وتطهيرهما من الخطابات الطائفية والعنصرية.
سادسًا: معوقات محتملة أمام تحقيق السلم الأهلي
لا بد من التحسب لمعوقات جدية قد تهدد بناء السلم الأهلي، منها:
ضعف الإرادة السياسية لدى بعض الأطراف: بسبب مكاسبها من استمرار الانقسامات.
التدخلات الإقليمية والدولية: التي قد تفضل بقاء بيئة الانقسام لضمان نفوذها.
الذاكرة المثقلة بالجراح الجماعية: التي تصعب عملية المصالحة دون معالجات ذكية وحساسة.
الخوف العميق من المستقبل: خاصة لدى الأقليات، مما يجعلها مترددة في الانخراط الكامل في مشروع الدولة الجديدة.
كل هذه التحديات تتطلب إدارة دقيقة وصبورة لعملية السلم الأهلي، تتجاوز منطق الشعارات إلى العمل المنهجي طويل النفس.
خاتمة الفصل
السلم الأهلي في سوريا ليس منحة من سلطة جديدة، ولا صفقة بين قوى الأمر الواقع، ولا هدنة تفرضها أطراف دولية.
إنه مشروع وطني جذري، يقوم على إعادة صياغة العلاقة بين السوريين بعضهم ببعض على أسس:
المساواة.
الحرية.
العدالة.
الندية.
لا طريق آخر لبناء سوريا المستقبل إلا عبر تثبيت هذه القيم عمليًا، وتحويلها إلى أسس ثابتة للسلوك المجتمعي والمؤسساتي.
فبدون سلم أهلي حقيقي، لا دولة وطنية، ولا نهضة، ولا مستقبل.