القسم العاشر – الباب الثالث
الفصل الحادي عشر منظومات الإعلام والمعرفة
من التأثير إلى الحصانة الثقافية
إعادة هندسة المنصات الإعلامية والمؤسسات المعرفية لبناء وعي سيادي تعددي منيع
أولًا: الخلفية – من إعلام السلطة إلى هندسة الخضوع
لم يكن الإعلام السوري مؤسسة معرفة أو حوار، بل كان منظومة دعاية سلطوية مغلقة وظيفتها إنتاج الولاء وقمع السؤال وتكريس الرواية الوحيدة.
كما تحوّلت المعرفة في عهد الاستبداد إلى قطاع مهمّش، محدود، خاضع للرقابة والوصاية، حيث مُنع التفكير النقدي، وقُمعت الأبحاث، وحُوصرت الجامعات، وتم تسليع التعليم وتفريغه من مضمونه التحرري.
والنتيجة كانت كارثية:
انهيار في صدقية الخطاب الإعلامي.
تشظّي مجتمعي قائم على الجهل والخرافة والتضليل.
انفصال المؤسسات المعرفية عن الواقع والمجتمع.
تحوّل الإعلام إلى منصات فئوية أو مرتهنة خارجيًا بعد الثورة، بدل أن يصبح مجالًا عامًا موحدًا.
ثانيًا: التحديات البنيوية في الإعلام والمعرفة
غياب البيئة القانونية والمؤسساتية لحرية الإعلام واستقلالية المعرفة.
تراكم الفجوة بين أدوات الإنتاج المعرفي واحتياجات المجتمع.
تضخم الإعلام الترويجي مقابل غياب الإعلام التحليلي الاستقصائي.
احتكار الإعلام من قبل السلطة، أو تجزئته بين قوى الأمر الواقع.
انهيار الثقة بين المواطن والمعلومة، وبين المجتمع والمعرفة.
ثالثًا: الرؤية الجديدة – المعرفة كسلطة سيادية، والإعلام كمساحة تنويرية
في المشروع النهضوي، الإعلام والمعرفة ليسا قطاعين خدميين، بل مكوّنان عضويان في بناء وعي سيادي متحرر، منيع، ومسؤول.
وهما ليسا أدوات توجيه، بل فضاءان للجدل العام، والمسؤولية الأخلاقية، وتكوين الرأي المستقل.
ولذلك، فإن بناء إعلام ومعرفة جديرة بسوريا الجديدة يتطلب:
تحرير الكلمة من الخوف، والفكرة من الرقابة.
تحويل الإعلام من أداة سلطة إلى منصة مجتمعية شاملة.
جعل إنتاج المعرفة وظيفة مركزية في الدولة والمجتمع.
تأسيس علاقة عضوية بين الحرية والمسؤولية والمصلحة العامة.
رابعًا: خارطة العمل لإعادة بناء الإعلام والمعرفة في سوريا الجديدة
1. صياغة منظومة قانونية ضامنة لحرية الإعلام واستقلاليته
إقرار قانون الإعلام التعددي الحر، يُلغي الرقابة، ويمنع الاحتكار، ويُحاصر التبعية.
تأسيس هيئة وطنية مستقلة لتنظيم الإعلام، لا تتبع الحكومة ولا الأحزاب.
ضمان حق الحصول على المعلومات بوصفه حقًا دستوريًا.
2. تحرير الإعلام الرسمي وتحويله إلى إعلام عام
تفكيك البنية الدعائية للمنصات الرسمية، وإعادة تأسيسها كمؤسسات إعلام عام تُموَّل شعبيًا وتُدار بمهنية.
ضمان تمثيل كل الأطياف المجتمعية والمناطقية والسياسية في خطاب الإعلام العام.
إدماج اللاجئين والشتات في الإنتاج الإعلامي الوطني، بوصفهم جزءًا من الحاضر والمستقبل.
3. دعم الإعلام المستقل والمجتمعي والرقمي
إنشاء صناديق تمويل شفاف لدعم المبادرات الإعلامية المجتمعية المستقلة.
ضمان بيئة قانونية تحمي الصحفيين، وتُجرّم الاعتداء عليهم أو التضييق عليهم.
الاستثمار في الإعلام الرقمي كأداة مركزية في تكوين وعي الأجيال الجديدة.
4. إعادة بناء منظومة التعليم والبحث العلمي
تحرير الجامعات ومراكز الأبحاث من الرقابة السياسية، وربطها بالاستقلال المؤسسي.
إعادة تصميم المناهج لتكون قائمة على التفكير النقدي، والتحليل، والمقارنة، والانفتاح.
إنشاء مؤسسة وطنية عليا للبحث العلمي، مرتبطة مباشرة بالمجتمع ومراكز صنع القرار.
5. ربط الإعلام والمعرفة بمشروع النهضة لا بالحياد المجرد
توجيه الإنتاج الإعلامي والمعرفي ليخدم قيم السيادة، التعدد، العدالة، والانتماء.
دعم مشاريع توثيق الذاكرة، ورصد التحولات الاجتماعية، وتفكيك آثار الاستبداد ثقافيًا.
تحويل الإعلام والمعرفة إلى أدوات مقاومة رمزية في وجه الجهل، الخوف، والتطرف.
خامسًا: الخطة التنفيذية المرحلية
- المرحلة الأولى (أشهر 0–12)
إصدار قانون الإعلام الجديد.
تدشين الهيئة الوطنية للإعلام والمعرفة.
البدء بمراجعة مناهج التعليم والإعلام الرسمي.
- المرحلة الثانية (سنة 1–3)
إنشاء أول قناة عامة وطنية متعددة الهوية والبنية.
إطلاق برامج دعم للصحافة الاستقصائية والإعلام المحلي.
بناء شبكة بحث علمي وطنية مرتبطة بالسياسات العامة.
- المرحلة الثالثة (ما بعد 3 سنوات)
إدراج مؤشرات المعرفة والحرية الإعلامية ضمن تقييم أداء الدولة.
توسيع الفضاء الإعلامي ليشمل اللغة الكردية، الآشورية، الشركسية… إلخ.
مأسسة العلاقة بين الإنتاج المعرفي والسياسات الوطنية عبر أدوات مؤسسية دائمة.
سادسًا: الإعلام والمعرفة كحصن وطني ضد التفكك والتلاعب
لا يمكن لدولة أن تصمد إذا كانت كلماتها مقموعة، وعقولها مؤجرة، ومنصاتها مختطَفة.
وفي سوريا الجديدة، لن يكون الإعلام تابعًا، ولن تُختطف المعرفة، بل سيُبنى فضاءٌ معرفي حرّ، مسؤول، ناقد، ومتجدد، يحصّن المجتمع ضد الخوف، الجهل، والتبعية، ويفتح الباب أمام وعي سيادي يستحيل مصادرته.