القسم الثالث – الباب الثالث
الفصل الحادي عشر الأمن كوظيفة اجتماعية لا كأداة تسلطية
مقدمة تأطيرية:
في الدول السوية، يُنظر إلى الأمن باعتباره إحدى أهم وظائف الدولة، بوصفه شرطًا لازمًا لحماية المجتمع وضمان النظام العام.
لكن في سوريا، كان الأمن هو أكثر أدوات القمع رعبًا وتجذّرًا، لا لأنه حمى الدولة، بل لأنه تمركز في قبضة النظام، وسُخّر لحماية السلطة لا حماية الشعب.
لقد تحوّلت أجهزة الأمن من مؤسسات وظيفية إلى سلطة فوق الدولة، فوق القانون، فوق الإنسان.
وبات كل مواطن مشروع متهم، وكل رأي خطرًا، وكل فكرة تهمة.
ولهذا، فإن أولى خطوات النهضة هي نزع مفهوم الأمن من قبضة الاستبداد، وإعادته إلى موقعه الطبيعي: وظيفة اجتماعية تحمي الإنسان، لا سجّان سياسي يلاحقه.
أولًا: الأمن السلطوي – آلية الترويع والاحتكار
في بنية النظام السوري، لم يكن الأمن مجرد جهاز، بل عقيدة شاملة اخترقت السياسة، والاقتصاد، والتعليم، والثقافة.
وقد تميّز النموذج الأمني السلطوي بعدّة سمات:
- أمن بلا قانون: حيث لا يُعرف من يعتقل، ولماذا، ولا متى يُفرج.
- أمن فوق الدستور: الأجهزة تُملي، والوزارات تنفذ، والقضاة يخضعون.
- أمن شمولي: يتدخل في تفاصيل الحياة اليومية، من الجامعة إلى المسجد إلى الزواج والسفر.
- أمن شخصي–عائلي: حيث الحماية ليست للوطن، بل للسلطة ومراكزها الوراثية.
وكانت النتيجة مجتمعًا مشلولًا، خائفًا، منزوع الفاعلية، يراقب نفسه بنفسه.
ثانيًا: إعادة تعريف وظيفة الأمن
في الدولة الأخلاقية، يُعاد تعريف الأمن على النحو التالي:
الأمن هو الحماية القانونية المنظمة للمجتمع، من دون انتهاك الحقوق، ومن دون تجاوز القانون، ومن دون خضوع للسلطة السياسية.
ويعني هذا التوجه:
- إخضاع أجهزة الأمن للقانون والدستور.
- فصل الأمن عن السياسة، ومنع استخدامه كذراع انتخابي أو حزبي أو أيديولوجي.
- تعريف الأمن كـ”خدمة عامة” لا “امتياز سلطوي“.
- الحد من الصلاحيات التقديرية، وضبطها عبر المحاكم والرقابة البرلمانية.
ثالثًا: الأمن في خدمة الإنسان لا السلطة
في سوريا الجديدة، يجب أن يكون الأمن:
- منظّمًا بقوانين دقيقة تضمن الشفافية والمحاسبة.
- موجّهًا لحماية الأفراد من التهديد، لا لإخافتهم وإذلالهم.
- مدنيًا في جوهره، حتى لو كانت أدواته أمنية.
- محايدًا سياسيًا، لا خاضعًا لتحالفات حزبية أو طائفية.
إنه انتقال من “الدولة البوليسية” إلى “دولة الحماية”، ومن “مواطن يُخاف عليه” إلى “مواطن يُخاف منه”.
رابعًا: معايير إصلاح الأجهزة الأمنية
لا يمكن الاكتفاء بتغيير الأسماء أو الدمج الإداري، بل يجب إجراء إصلاح جذري للمؤسسة الأمنية، يشمل:
- توحيد المرجعيات الأمنية ضمن وزارة واحدة خاضعة للرقابة.
- إلغاء الأجهزة الموازية الخارجة عن القانون.
- إعادة هيكلة الكوادر بناء على الكفاءة والسلوك، لا الولاء والرتب.
- فتح ملفات الانتهاكات ومحاسبة من تورّط في جرائم ضد الإنسانية.
- إعادة تأهيل العاملين الجدد على مبادئ القانون وحقوق الإنسان.
- ضمان مشاركة المجتمع المدني في مراقبة أداء المؤسسة الأمنية.
خامسًا: الأمن كضمانة للعقد الاجتماعي
لا يمكن لعقد اجتماعي أن يُكتب أو يُحترم في ظلّ الخوف.
فالأمن الذي يُرهب الناس يهدم الثقة السياسية، ويمنع التعددية، ويُحوّل الدولة إلى سجن موسّع.
أما الأمن الذي يُبنى على التعاقد والمشاركة، فهو:
- ما يَحفظ الشرعية لا ما يصنعها.
- ما يُحيط بالاختلاف بسياج قانوني، لا ما يُلغيه بالعنف.
- ما يُطمئن المواطن لا ما يُرهبه.
وهكذا، يتحوّل الأمن من كابوس إلى وظيفة، ومن خطر إلى أمان، ومن أداة طغيان إلى أساس لدولة القانون.
خاتمة الفصل:
لا نهضة بلا أمن، ولا أمن بلا حرية.
والدولة التي لا تحمي مواطنيها إلا بتخويفهم، لا تستحق أن تُسمى دولة.
ولهذا، فإن مشروع النهضة يبدأ أولًا بتحرير الإنسان من الخوف، عبر إعادة بناء المنظومة الأمنية على أساس اجتماعي وقانوني، يخدم الناس لا يستعبدهم.