web analytics
القسم الخامس

الفصل الحادي عشر السردية الوطنية الجامعة

من روايات الانقسام إلى قصة الانتماء المشترك

مقدمة الفصل:

ليست المجتمعات والدول مجرّد كيانات قانونية أو تنظيمات مؤسساتية.

بل تقوم، في جوهرها العميق، على “سردية” — أي قصة جماعية مشتركة — تمنح الأفراد شعورًا بالانتماء، وتمنح الوطن معنى يتجاوز الجغرافيا والمصلحة الآنية.

في سوريا، لطالما غابت السردية الوطنية الجامعة:

غُيبت بفعل روايات طائفية وقومية متصارعة.

شوّهها الاستبداد بجعل الدولة قصة عن الحاكم بدل أن تكون قصة عن الشعب.

مزقتها الحرب إلى قصص متناقضة عن الضحية والجلاد، عن الثورة والخيانة، عن الحق والباطل.

بلا سردية وطنية جديدة، تبقى كل محاولات بناء الدولة كمن يبني بيتًا بلا أساس.
لهذا، فإن صياغة سردية وطنية سورية حديثة، حقيقية، جامعة، تعدُّ مهمة مركزية في مشروع النهضة السورية.

أولًا – معنى السردية الوطنية

السردية الوطنية هي:

الرواية الكبرى التي تفسر للأمة من هي، ومن أين جاءت، وما الذي يجمع أفرادها، وما الذي تسعى إليه.

الإطار الرمزي الذي يربط الأفراد عبر الزمان والمكان، ويحوّل المجتمع من مجرد تجمّع بشري إلى جماعة سياسية–أخلاقية لها هوية ورسالة.

من دون سردية جامعة:

يتحول الشعب إلى مجموعات متناحرة لها روايات متضادة.

تفقد الدولة قدرتها على المطالبة بالولاء.

ويصبح الانقسام القيمي والسياسي قدرًا دائمًا.

ثانيًا – كيف تشظّت السردية السورية؟

منذ الاستقلال وحتى اللحظة، فشلت النخب السياسية والثقافية السورية في بناء سردية وطنية جامعة بسبب:

القومية الإقصائية:

الرواية الرسمية فرضت قومية عربية ضيقة، أنكرَت الوجود الكردي والسرياني والأرمني وغيرهم، مما أنتج روايات مقاومة مضادة.

الطائفية السياسية:

تم تصوير سوريا كمسرح لصراع وجودي بين طوائف، مما مزّق الذاكرة الجمعية إلى حكايات انغلاقية ومظلوميات متبادلة.

استبداد السلطة:

تحولت السردية الوطنية الرسمية إلى قصة تمجيد الحاكم والحزب الواحد، مما أسقطها في أعين الناس وقطع صلتهم بها.

الحرب الأهلية الأخيرة:
فجرّت كل الروايات المكبوتة.

كل طائفة، وكل منطقة، وكل طرف سياسي، صار يمتلك قصة خاصة عن “سوريا الحقيقية”، غالبًا مناقضة لقصص الآخرين.

ثالثًا – المبادئ الكبرى لبناء سردية وطنية سورية جديدة

حتى نؤسس لسردية جامعة حقيقية، لا بد أن ترتكز على المبادئ التالية:

  1. الشمول والاعتراف:

لا تقصي أي مكون أو جماعة أو رواية من الذاكرة الوطنية.

تعترف بتعدد التجارب والآلام والبطولات.

  1. الحقيقة لا الأسطورة:

لا تقوم على إنكار المجازر والانتهاكات، ولا على تمجيد الزعامات الكاذبة.

تبنى على مواجهة الحقائق المؤلمة بجرأة ومسؤولية.

  1. التعدد ضمن الوحدة:

تؤمن بأن الهوية السورية ليست متجانسة قسرًا، بل هي نسيج غني من الثقافات واللغات والمذاهب.

  1. البطولة الجماعية لا الفردية:

تُمجّد بطولة الشعوب، لا عبادة الزعماء أو القادة.

  1. المستقبلية:

تتجاوز أسر الماضي إلى مشروع مستقبلي جماعي: بناء دولة عادلة وحرة ومزدهرة لكل السوريين.

رابعًا – محاور السردية الوطنية الجديدة

  1. قصة الاستقلال الحقيقي:

الاعتراف بكل نضالات التحرر الوطني ضد الاستعمار.

ولكن مع نقد كيف تحوّل الاستقلال السياسي إلى ارتهان داخلي جديد عبر أنظمة الاستبداد.

  1. قصة المجتمع السوري المتعدد:

سرد حكاية التعايش التاريخي بين المكونات المختلفة.

إبراز كيف أن التنوع كان مصدر غنى، لا صراع حتمي.

  1. قصة القهر والمقاومة:

الاعتراف بالقمع السياسي والاجتماعي الذي تعرض له السوريون جميعًا.

تخليد ذكرى المعتقلين، والضحايا المدنيين، والمظلومين من كل الطوائف والمناطق.

  1. قصة الثورة والانكسار:

سرد كيف ولدت المطالبة بالحرية والكرامة.

وكيف تاهت الثورة بين العنف المضاد والعسكرة والتدخلات الخارجية، دون أن يفقد الشعب حقه المشروع.

  1. قصة البناء الجديد:

التأكيد أن السردية الوطنية ليست نوستالجيا للماضي، بل مشروع لإعادة بناء وطن جديد على أسس الحرية، العدالة، المواطنة، والكرامة.

خامسًا – أدوات بناء السردية الوطنية عمليًا

  1. التعليم:

دمج التاريخ الحقيقي المتعدد الأبعاد في المناهج الدراسية.

تعليم القيم المدنية والمواطنة عبر قصص حقيقية عن التعايش والتضامن.

  1. الإعلام والثقافة:

دعم إنتاج الأفلام والمسلسلات والكتب التي تروي قصص السوريين جميعًا، لا فقط رواية السلطة أو رواية طرف واحد.

كسر الصور النمطية والعداءات المصطنعة إعلاميًا.

  1. الأدب والفن:

تشجيع الرواية والشعر والمسرح والفنون البصرية كوسائط لاستعادة الذاكرة الجماعية وتجاوز جراحها.

  1. الذاكرة المؤسسية:

إنشاء متحف وطني للذاكرة السورية الحديثة، يخلد قصص الضحايا من جميع الأطراف، ويؤرّخ لحقيقة الانقسامات، بهدف المصالحة لا التغذية.

  1. العدالة الانتقالية:

كشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم دون تشفٍ أو انتقام.

تحويل الجراح إلى دروس مؤسسة لوطن جديد.

سادسًا – التحديات والرهانات

مقاومة السرديات الطائفية والعرقية التي تحاول اختزال القصة السورية لصالح جماعة واحدة.

التغلب على إغراء “إنكار” مآسي الآخر أو تبرير الانتهاكات الذاتية.

حماية السردية الجامعة من الاستغلال السياسي والدعائي.

استعادة الثقة في إمكانية وجود “نحن” سورية بعد كل هذا التمزق.

خاتمة الفصل:

السردية الوطنية ليست حكاية للتسلية، ولا مجرد ملف يُكتب ثم يُنسى.
إنها خريطة المعنى الذي يقود شعبًا كاملاً إلى المستقبل.

سوريا الجديدة بحاجة إلى قصة جديدة:
قصة لا تنكر ألم أحد، ولا تمجد ظلم أحد، ولا تدّعي الطهارة الكاملة لأي طرف.
بل تعترف بأننا جميعًا — بدرجات مختلفة — شاركنا في صناعة الجرح، وأننا جميعًا مدعوون لصناعة الشفاء.

بهذه السردية المتصالحة مع الحقيقة، يمكننا أن نبني وطنًا لا تقوم وحدته على الإنكار والكراهية، بل على الحرية والعدل والاعتراف.

فقط عبر هذه القصة الجامعة، تصبح سوريا وطنًا فعليًا، لا مجرد ساحة نزاع أو مساحة ضائعة بين قصص متناحرة.