القسم الأول
الفصل الخامس عشر الإعلام والمعرفة
كيف صُنِع وعي الخضوع في سوريا؟
مدخل فلسفي–معرفي:
قبل أن يُطلَق الرصاص في سوريا،
كان العقل قد أُخضع.
وقبل أن يُهدم البيت،
كانت الحقيقة قد هُدِمت.
لأن أخطر ما فعلته السلطة لم يكن القمع الأمني وحده،
بل كان احتكار المعرفة،
وتحويل الإعلام من منبر للحقيقة… إلى منبر للنجاة من الحقيقة.
في سوريا، لم تكن المسألة فقط: ماذا نُشاهد أو نقرأ؟
بل: بل: كيف نُصاغ ذهنيًا، وكيف نُمنع من التفكير النقدي، وكيف نُدرَّب على الطاعة بوصفها نمط وجود، لا فقط سلوكًا سياسيًا.
ولذلك، فإن مشروع النهضة لا يمكن أن يُبنى من فوق الذاكرة المصادرة،
ولا يمكن أن يولد في بيئة أُفرغت من التفكير الحر،
وشُيطن فيها العقل،
وتمّت هندسة الإدراك فيها لصالح بقاء النظام.
أولًا: الإعلام في سوريا – من وسيلة تواصل إلى أداة تهديم للوعي
منذ بدايات البعث، تحوّل الإعلام إلى جهاز تعبئة.
- جريدة الثورة،
- وكالة سانا،
- التلفزيون السوري،
- وكل المنابر المكتوبة والمسموعة والمرئية…
كلها لم تكن تُخاطب الإنسان،
بل كانت تُعيد إنتاج “المواطن النموذجي”:
المطيع، الصامت، المؤمن بأن القائد لا يخطئ،
وأن الوطن هو النظام،
وأن من يعارض، عميل،
وأن مَن يسأل، مخرّب.
الإعلام في سوريا لم يكن يُخبر،
بل يُلقِّن.
لم يكن ينقل الحقيقة،
بل يحرّفها.
وكان الهدف واحدًا:
إنتاج وعي هشّ، تابع، قابل للتوجيه… يرى السلطة مصدرًا للحقيقة، والخضوع شرطًا للأمان.
ثانيًا: أدوات السيطرة على الإعلام – قوانين وقمع وخوف داخلي
لكي يتحوّل الإعلام إلى أداة طاعة،
استُخدمت مجموعة أدوات متكاملة:
- القوانين المقيدة: مثل قانون الإعلام رقم 108، الذي يُجرّم أي انتقاد للسلطة، ويمنح الدولة حق إغلاق أي وسيلة دون مراجعة.
- الرقابة المسبقة: لم تُفرض على السياسة فقط، بل على الشعر، والقصة، واللغة نفسها.
- الإعلام الحزبي–الأمني: لا صحيفة تخرج عن مظلة البعث.
- احتكار البث والتمويل: الدولة تملك التلفزيون، والإعلانات، والهواء.
- ملاحقة الصحفيين المستقلين: الاعتقال، المنع من السفر، الفصل.
- التمويل المشروط: حتى القنوات الخاصة (كالدنيا، شام…) كانت مملوكة من رجال أعمال النظام وتُدار أمنيًا.
ثالثًا: الإعلام البديل – محاولة للتنفس انتهت بالقمع أو التوظيف
مع بداية الثورة، ظهر ما سُمّي بـ”الإعلام البديل”:
- تنسيقيات،
- صفحات ميدانية،
- مواقع إخبارية مستقلة،
- مبادرات شبابية.
لكن هذا الحراك، رغم قوته الأولى، واجه:
- الاختراق الأمني،
- التمويل الخارجي المشروط،
- الاستقطاب الحزبي والإيديولوجي،
- ضعف البنية المهنية،
- وتحوّل جزء منه إلى أدوات دعاية مضادة، لا بدائل معرفية حقيقية.
وبذلك، لم يستطع الإعلام البديل أن يبني وعيًا جديدًا،
بل غالبًا ما استُهلك في لعبة المحاور، وتحول من مساحة لتحرير المعنى… إلى واجهة صراع بلا مشروع معرفي جامع.
رابعًا: التعليم والمعرفة – كيف تحوّل العقل إلى هدف مباشر للسلطة؟
التعليم في سوريا لم يكن محايدًا،
بل كان أداة مباشرة لإنتاج مواطن لا يفكر.
- المناهج المدرسية كتبتها لجان حزبية–أمنية، لا تربوية.
- تاريخ سوريا أُعيدت كتابته بأقلام السلطة.
- الفلسفة غابت أو حُيّدت.
- التربية الوطنية تحوّلت إلى دروس في تمجيد الرئيس.
- الجامعة أصبحت خاضعة للأمن قبل الأكاديميا.
وحتى في الدراسات العليا،
لم تكن المعرفة هي الهدف،
بل “السلامة السياسية” و”الرضا الأمني”.
وهكذا، وُلد جيل يتقن الحفظ،
ويخاف النقد،
ويُشكك بأي تفكير مستقل.
خامسًا: ثقافة التلقي لا المشاركة – كيف صُمّمت بنية العقل الخاضع؟
بفعل الإعلام والتعليم معًا،
تكرّست في المجتمع السوري ما نسميه بـ”ثقافة التلقي”:
- يتلقّى دون أن يُفكر،
- يُردّد دون أن يتحقق،
- يُخدّر بالثوابت،
- يتشكك في العقل، ويقدّس السلطة،
- ويُحرّض ضد الشكّ، ويُعاقَب على الأسئلة.
وهكذا، لم تكن المشكلة في غياب المعلومات فقط،
بل في تغييب ملكة التفكير ذاتها.
سادسًا: نحو تحرير العقل – المعرفة كشرط للكرامة
في مشروع النهضة،
لا يُمكن الحديث عن دولة جديدة، أو مجتمع ناهض، أو إنسان فاعل،
دون تحرير أدوات المعرفة من الأسر السلطوي،
وإعادة الاعتبار للعقل بوصفه فعلًا تحرريًا، لا مجرد أداة تفسير
.ولهذا، يجب أن نبدأ من:
- إلغاء الرقابة، وفتح الفضاء الإعلامي الحر.
- إصلاح التعليم عبر إدخال التفكير النقدي منذ المرحلة الابتدائية.
- إعادة تشكيل المناهج بإشراف تربوي–اجتماعي مستقل.
- إعادة الاعتبار للجامعة بوصفها فضاءً للبحث لا للتلقين.
- دسترة حرية التعبير والمعرفة بوصفها شرطًا للسيادة.
- تمكين المجتمع من أدوات مساءلة الإعلام، لا فقط استهلاكه.
خاتمة الفصل وختام التشريح: المعرفة كأداة للتحرر لا كترف ثقافي
لم تكن معركة سوريا فقط على الأرض،
بل كانت أولًا معركة على الوعي.
وحين سقط الإعلام،
وسقط التعليم،
وسقط السؤال،
كان من الطبيعي أن يسقط الإنسان… في قبضة الخوف أو الخرافة.
فلا معنى للثورة دون وعي، ولا كرامة دون معرفة، ولا تحرر دون تحرر العقل أولًا.
في مشروع النهضة، المعرفة ليست ترفًا،
بل مفتاحًا لكل بناء،
وشرطًا لكل سيادة،
وضمانة أن لا نُقاد مرة أخرى إلى الخراب… بعينين مغمضتين.