القسم التاسع – الباب الرابع
الفصل الخامس عشر الصحة الوطنية
من الإهمال إلى رعاية الكرامة
مقدمة تأسيسية: حين يُقاس الوطن بحماية أضعف ناسه
ليست الدولة وطنًا حقيقيًا إن لم تملك القدرة والإرادة لرعاية من لا يستطيع حماية نفسه،
فالإنسان لا يحتاج الدولة في قوته فقط، بل في مرضه، وعجزه، وآلامه، وضعفه.
ومن هنا، تُقاس شرعية الدولة بمستوى عدالة نظامها الصحي،
لا بعدد المشافي، بل بعدد من يدخلها بكرامة دون واسطة أو مال،
لا بعدد الأطباء فقط، بل بكمّ الرحمة التي تتحول إلى سياسة عمومية،
لا بعد الميزانية، بل بعد التوزيع والنية والمضمون.
في سوريا، لم تكن الصحة سياسة، بل إهمالًا ممنهجًا، وفسادًا مستشريًا، وخصخصة غير معلنة.
– تحولت المشافي العامة إلى مسالخ بيروقراطية،
– وانتقل الكادر الطبي إلى الخارج أو الاستسلام،
– وتحوّل الفقير إلى ملفٍ ميتٍ قبل دخوله غرفة الطوارئ،
– وغابت العدالة في التوزيع بين المدن والمناطق،
– وتحوّلت الأدوية إلى سوق سوداء،
– وأُهمِل ذوو الإعاقة، والمسنون، والمصابون في الحرب، والنساء الحوامل في الأرياف.
ومع الحرب، انهار ما تبقّى:
– دُمّرت البنى التحتية،
– هربت الكوادر،
– انتشر السوق الأسود،
– وخرج ملايين السوريين من التغطية الصحية تمامًا.
في مشروع النهضة، لا نُرمّم نظامًا منهارًا فحسب، بل نعيد تأسيس الصحة بوصفها الترجمة السيادية اليومية لفكرة الكرامة.
فالصحة ليست قطاعًا، بل اختبارٌ أخلاقي–سياسي–اجتماعي للدولة.
أولًا: تفكيك الإهمال الصحي في التجربة السورية
- تهميش الصحة العامة
لم تكن موازنة الصحة أولوية، بل أقل من 3% من الإنفاق العام،
والنظام لم يرَ في الصحة إلا تكلفة، لا استثمارًا،
بل إن كثيرًا من المشافي كانت تُستخدم أمنيًا أكثر مما تُستخدم علاجيًا.
- تسييس المشافي والمراكز الطبية
– التوظيف خاضع للولاء،
– العناية مرتبطة بالواسطة،
– وهناك مستشفيات محمية للنخبة، وأخرى للفقراء المجهولين،
– وكانت بعض المؤسسات الصحية تُمجّد القائد أكثر مما تعالج المرضى.
- المركزية القاتلة
تركّزت الخدمات الطبية في دمشق والمدن الكبرى،
وغابت الرعاية الأولية في القرى والمخيمات والمناطق الحدودية.
ومات الناس في طريقهم إلى سرير لا يُمنح إلا إذا صرخ أحد من فوق.
- انهيار الثقة بين المواطن والنظام الصحي
تحوّلت الصحة إلى عبء نفسي ومصدر إذلال.
فالمواطن الفقير لا يثق بالطبيب العام،
ولا بالدواء المتوفّر،
ولا بالإسعاف،
ولا بنتائج التحاليل،
بل صار مرضه مدخلًا للفقر، ومذلّة، وخوف من المجهول.
ثانيًا: فلسفة الصحة في مشروع النهضة – رعاية الكرامة كوظيفة سيادية
- الصحة حق لا خدمة
لا يُنظر إلى الرعاية الصحية بوصفها “خدمة” تُعطى حين تسمح الظروف،
بل حقًا مدنيًا مضمونًا بالدستور، تلتزم به الدولة تجاه كل مواطن دون تمييز.
- من مركزية الرعاية إلى شبكتها المتوازنة
تُبنى منظومة صحة لامركزية،
– تضع الرعاية الأولية في صُلب بنيتها،
– وتُوزّع الموارد بعدل،
– وتربط الحاجات بالخدمات،
– وتُشرك المجتمع المحلي في الرقابة والتصميم.
- من العلاج إلى الوقاية
يُعاد بناء الثقافة الصحية بوصفها أداة وعي:
– عبر المناهج،
– والإعلام،
– وبرامج الدعم النفسي،
– والصحة المجتمعية،
– والرقابة على الأغذية والماء والبيئة،
لأن الصحة تبدأ قبل المرض، وتُبنى قبل أن يحتاج الإنسان إلى الإسعاف.
- من الإنفاق إلى الاستثمار في الإنسان
الصحة ليست بابًا للهدر، بل استثمار في الإنتاج، والاستقرار، والعلاقات، والثقة العامة.
ثالثًا: السياسات التنفيذية للصحة السيادية والعادلة
- إصدار “قانون الصحة الوطنية كحق دستوري“
ينص على أن:
لكل مواطن الحق الكامل في الرعاية الصحية المجانية في القطاع العام
الدولة تلتزم بتمويل البنية الصحية بشكل تصاعدي
لا يجوز حرمان أي فرد من العلاج بسبب الدين، أو الانتماء، أو الوضع الاقتصادي، أو الموقع الجغرافي
- إعادة هيكلة وزارة الصحة ضمن رؤية سيادية
توحيد الرؤية بين الوقائي والعلاجي
لامركزية التخطيط والتنفيذ
إنشاء مديريات صحية منتخبة محليًا ترتبط إداريًا بالسلطة المحلية وسياديًا بالدولة
- تطوير البنية التحتية الصحية في الأطراف والمناطق المحرومة
بناء مشافٍ نموذجية في كل محافظة وفق معايير عدالة التوزيع
دعم المراكز الصحية الريفية
توفير سيارات إسعاف وشبكات طوارئ لامركزية
إنشاء وحدات صحية متنقلة في المخيمات والمناطق الحدوديّة
- استعادة الثقة بالكوادر الطبية وتحفيزها
تحسين الأجور وظروف العمل
إطلاق برامج تدريب طبي حديث ومتواصل
توفير السكن والضمان الاجتماعي للعاملين في المناطق النائية
تشجيع عودة الأطباء السوريين من الخارج بشروط عادلة وآمنة
- إنشاء نظام وطني للتأمين الصحي الاجتماعي
يشمل كل المواطنين
يُمول من الضرائب التصاعدية على الأرباح الكبرى والريع العقاري
يُغطّي الخدمات الأساسية والأدوية
يُدار عبر هيئة مستقلة عن شركات التأمين الخاصة
- إدماج ملف الصحة النفسية والإصابات الناتجة عن الحرب
دعم العلاج النفسي لضحايا التعذيب، النزوح، الحرب، الفقد، الاغتصاب، PTSD
إدماج الصحة النفسية في الرعاية الأولية
تأسيس شبكة مراكز دعم مجتمعي بمشاركة منظمات محلية ومدنية
تأهيل الكوادر للتعامل مع ما خلّفته الحرب من أزمات عميقة
خاتمة الفصل
في سوريا التي نحلم بها، لا يموت الناس على أبواب الطوارئ،
ولا يُقاس المرض بكم تملك،
ولا يكون الدواء امتيازًا،
ولا تُهان الأمهات لأن لا “واسطة لهن”،
ولا يُترَك كبار السنّ في عزلة الألم،
ولا يُعامل الفقراء بوصفهم أقل استحقاقًا للعناية.
الصحة، كما نُعيد بناؤها، ليست شأنًا طبيًا فقط، بل إعلانًا يوميًا عن معنى الدولة:
هل هي حقٌّ للرعاية؟ أم إدارة للموت؟
هل هي أمينة على ضعفك؟ أم شريكة في قهرك؟
هل هي مرآة للعدالة؟ أم انعكاس للفوارق؟
في مشروع النهضة، نُعيد الإجابة: الصحة هي كرامة الإنسان في ضعفه، والسيادة في الجسد، والعدالة في الشفاء.