القسم السابع – الباب الثالث
الفصل الخامس عشر: منظومة العدالة الناهضة
بناء العدالة لا تصدير العقاب
مقدمة– العدالة بوصفها حجر الأساس لا أداة الزينة
في الدول المنهارة، تُصبح العدالة آخر ما يُفكر فيه الناس،
وفي الدول التسلطية، تُستخدم العدالة قناعًا للقمع،
وفي الدول المتصالحة مع ذاتها… تكون العدالة هي القاعدة التي يُبنى عليها كل شيء.
مشروع النهضة السورية لا يمكن أن يقوم
على ذاكرة مثقلة بالقهر،
ولا على مؤسسات قضائية ورثت الاستبداد،
ولا على قوانين صيغت لحماية النظام لا لحماية الناس.
إن إعادة تأسيس منظومة العدالة لا تعني ترميم المحاكم،
بل إعادة صياغة الفكرة نفسها:
أن يكون الإنسان محميًّا بالقانون، لا مسجونًا فيه،
وأن تكون الدولة خاضعة للعدالة، لا حامية منها.
أولاً: تشريح الانهيار – ما الذي حدث لمنظومة العدالة؟
لفهم ما يجب بناؤه، لا بد من كشف ما تمّ تدميره:
تم دمج القضاء في بنية السلطة السياسية وتحويله إلى ذراع تنفيذي باسم القانون.
تم تحويل التشريع إلى عملية فوقية حزبية أو أمنية، تُنتج قوانين مطاطة لخدمة القمع.
أصبحت المحاكم مسرحًا للانتقام بدلًا من أن تكون فضاء للإنصاف.
أُفرغت المحاماة من مضمونها المهني والاستقلالي.
أُهملت العدالة الاجتماعية، حتى صار الفقر هو التهمة، والانتماء هو البراءة.
النتيجة؟
تحوّل القضاء إلى مجرّد آلة بيروقراطية طيّعة،
خسرت ثقة الناس،
وصارت الدولة تُساق بلا عدالة… ولا محاسبة.
ثانياً: المبادئ التأسيسية لمنظومة العدالة في الدولة النهضوية
لإعادة بناء العدالة على أسس صحيحة، نُعيد صياغة المبادئ الآتية:
العدالة ليست تابعة للدولة، بل ضابطة لها.
استقلال القضاء لا تفضّل من السلطة، بل ضمان دستوري لا يُمسّ.
المحاكمة العادلة حق مقدّس، لا استثناء يُمنح أو يُلغى.
العدالة تشمل الإنسان كاملًا: في جسده، وفكره، وحقه في الحياة الكريمة.
لا عدالة بلا مساءلة، ولا مساءلة دون شفافية، ولا شفافية بلا إعلام حر ومجتمع حي.
ثالثاً: معالم البناء الجديد – من الجهاز إلى المنظومة
نعيد بناء منظومة العدالة وفق الركائز التالية:
مجلس قضائي أعلى مستقل تمامًا، لا يخضع للسلطة التنفيذية، يتولى تعيين القضاة وضمان نزاهتهم ومحاسبتهم.
محكمة دستورية حقيقية، تراقب تطابق القوانين مع العقد الدستوري الجديد، وتفصل في النزاعات الكبرى بمرجعية الحقوق لا المصلحة السياسية.
إلغاء جميع المحاكم الاستثنائية، بلا استثناء، بما في ذلك محكمة الإرهاب ومحكمة الأمن.
مؤسسة دفاع مستقلة، تدير نقابات المحامين، وتضمن لهم الحماية المهنية والكرامة.
منظومة تدريب قضائي مستدامة، تُخرّج القضاة من مدارس حقوقية حديثة، لا مدارس أمنية أو طائفية.
توسيع مفهوم العدالة ليشمل القضاء الإداري، والاقتصادي، والاجتماعي، والأخلاقي.
رابعاً: العدالة الانتقالية – معالجة جراح الماضي من أجل مستقبل ممكن
لا دولة بلا ذاكرة،
ولا مصالحة بلا إنصاف.
ولهذا، نقترح ضمن منظومة العدالة النهضوية، تبني مسار عدالة انتقالية شامل يشمل:
توثيق الجرائم والانتهاكات بشكل مستقل ومهني.
فتح الباب أمام المحاسبة القضائية للمتورطين في الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.
إطلاق برنامج إنصاف معنوي ومادي للضحايا وأهاليهم.
تأسيس “هيئة كشف الحقيقة” بتمثيل حقوقي ومجتمعي واسع.
وضع إطار زمني مرحلي للعدالة الانتقالية يضمن التوازن بين المحاسبة والاستقرار.
خامساً: العدالة الاجتماعية – الرافعة المكمّلة للعدالة القضائية
لا تكفي المحاكم لبناء دولة عادلة،
بل لا بد من عدالة تتجلى في الحياة اليومية للناس:
المساواة في فرص العمل والسكن والتعليم والرعاية الصحية.
التمييز الإيجابي للمناطق المهمشة سابقًا.
أنظمة دعم تحمي الفئات الضعيفة من الفقر والتهميش.
توزيع عادل للموارد الوطنية.
رعاية ذوي الاحتياجات والفئات المتضررة من الحرب.
العدالة ليست قرارًا قضائيًا فقط، بل بنية مجتمعية متوازنة.
خاتمة الفصل
في مشروع النهضة السورية،
لا نريد أن نخترع العدالة،
بل نعيدها إلى وظيفتها الأولى:
أن تحمي الإنسان من الغلبة،
وتضبط السلطة بلا انكسار،
وتمنح للمواطن كرامته القانونية،
وتحمي المستقبل من العودة إلى الجريمة.
العدالة ليست إجراءً… بل منظومة.
وليست حكمًا… بل ثقافة.
وليست حلمًا… بل قاعدة من قواعد السيادة.
فمن دون عدالة، تبقى الدولة خطرًا،
ويتحول الحكم إلى حظ…
والحق إلى صدفة…
والقانون إلى سوط.