القسم الثاني – الباب الثاني
الفصل الخامس عشر العمل والكرامة الاقتصادية
من التبعية إلى التمكين
مدخل فلسفي–اقتصادي
العمل ليس مجرد وسيلة للرزق،
ولا مجرد وظيفة تؤمّن البقاء،
بل هو تعبير جوهري عن الإنسان في صيغته الحرة.
هو الفعل الذي يُثبت به وجوده،
ويصوغ من خلاله علاقته بالعالم،
ويحوّل عبره القيمة إلى معنى.
لكن في سوريا، لم يكن العمل كذلك.
تم تهميشه، تسليعه، تسييسه، إذلاله…
حتى صار كثير من السوريين يعملون ليعيشوا، لا ليُعبّروا عن أنفسهم.
وصار العمل أداة للنجاة، لا أداة للكرامة.
ولذلك، فإن مشروع النهضة لا يسعى فقط إلى إصلاح سوق العمل،
بل إلى تحرير فلسفة العمل من الاستغلال،
وإعادة تعريفه بوصفه ركيزة للسيادة،
ومدخلًا لبناء اقتصاد يليق بالإنسان،
ومساحةً لصناعة المعنى… لا فقط الدخل.
أولًا: تشريح واقع العمل في سوريا – من الكفاءة إلى الولاء
من خلال ما تم تحليله في القسم الأول، يتضح أن:
- البطالة البنيوية ارتفعت حتى في فترات “السلم”، ثم انفجرت بعد الحرب.
- العمل في القطاع العام خاضع للولاء، لا للكفاءة.
- القطاع الخاص إما ريعي أو صغير، يفتقر إلى التنظيم والحماية.
- التمييز الجندري واسع: عمل المرأة يُقصى أو يُستغل.
- الهجرة القسرية للكفاءات أفرغت المجتمع من طاقته المنتجة.
- العمل غير المنظم استوعب الملايين دون حقوق أو ضمانات.
- غياب النقابات المستقلة جعل العامل بلا صوت ولا تمثيل.
النتيجة؟
مواطن يعمل ليبقى حيًا،
لا ليبني ذاته أو يشارك في بناء الوطن.
ثانيًا: فلسفة العمل في مشروع النهضة – من البقاء إلى التمكين
في مشروع النهضة، نعيد تعريف العمل بوصفه:
فعلًا إنسانيًا محرّرًا، يُنتج من خلاله الفرد ذاته،
ويُشارك عبره في صناعة المصير الاقتصادي والاجتماعي،
ويُعاش كحقّ لا كامتياز، وكواجب لا كعبء.
العمل، بهذا المعنى، ليس تابعًا للسياسة،
ولا مرهونًا برضا الأمن،
ولا مربوطًا بمنطق الريع،
بل هو شكل من أشكال السيادة الشخصية والاجتماعية.
ثالثًا: من التوظيف السلطوي إلى التشغيل الإنتاجي
- لا نريد دولة “تُعين” الناس بوظائف وهمية، بل تمكّنهم من العمل الحقيقي.
- لا نريد سوقًا “يمتصّ” القوة العاملة بدون حقوق، بل بيئة تشاركية عادلة.
- لا نريد اقتصادًا يقوم على الاستيراد والتبعية، بل على الإنتاج المحلي والسيادة الصناعية والزراعية.
- لا نريد أن يُعاقب العامل بالفقر، أو يُدان بالحاجة، بل يُحتَرم ويُضمَن.
رابعًا: المبادئ الحاكمة للكرامة الاقتصادية
- العمل حق دستوري يُصان ويُحمى، لا يُستجدَى أو يُشترَى بالولاء.
- المساواة في الفرص، وتكافؤ في التمكين، دون تمييز على أساس الجنس أو الانتماء أو الولاء السياسي.
- تشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة بوصفها العمود الفقري لأي نهضة اقتصادية.
- دعم القطاع التعاوني والمجتمعي، لإعادة توزيع الثروة وتقوية الروابط الإنتاجية.
- تمكين الاقتصاد الوطني المنتج من منافسة الأسواق بدل الارتهان لها.
- ربط التعليم بسوق العمل الحقيقي، لا بالمؤهلات الشكلية.
خامسًا: خارطة الطريق نحو اقتصاد العمل الكريم
- إعادة هيكلة وزارة العمل لتكون حاضنة للعدالة لا جهازًا للتعيين السياسي.
- تشريع قانون عمل عصري، يضمن الأجر العادل، والتأمين، وساعات العمل، والأمان الوظيفي.
- تحفيز الريادة المجتمعية، وتسهيل تأسيس الأعمال الصغيرة والمتوسطة.
- تمكين المرأة في سوق العمل عبر الحماية، والتشريع، والتدريب، والتكافؤ.
- إنشاء صندوق سيادة وطني لدعم التشغيل في المناطق المتضررة والريف المهمل.
- إعادة الاعتبار للنقابات المستقلة كمؤسسات فاعلة في الدفاع عن حقوق العاملين.
- دعم الإنتاج المحلي: زراعة وصناعة وخدمات قائمة على المعرفة، لا على الولاء.
خاتمة الفصل: من اليد العاملة إلى الفاعل الاقتصادي السيادي
حين يُجبر الإنسان على العمل فقط ليأكل… فهو عبدٌ مقنّع.
وحين يُمنح العمل لا بوصفه حقًا، بل كأداة ولاء… فهو في دولة تُشبه السجن.
وحين يُنتج دون أن يملك، أو يُستغل دون أن يُحترم،
فلا معنى للنهضة، ولا أفق للكرامة.
في مشروعنا،
العمل هو السيادة،
هو إعادة بناء العلاقة بين الإنسان والاقتصاد،
بين الإنتاج والعدالة،
بين الوطن ومعنى الحياة.
فقط حين تكون الوظيفة بوابة للفعل،
والعمل أداة للتحرر،
والكفاءة مقياسًا للفرصة…
يمكن أن نقول إننا نخطو نحو سوريا حقيقية،
لا يُقاس فيها المواطن بما يملك… بل بما يُنتِج، ويصنع، ويُبدع.